السيّد عبّاس نورالدين
كم هو ساذجٌ ومغفّل ذاك الذي لا يخطر على باله أنّ لأجهزة المخابرات الأمريكيّة والإسرائيليّة والأوروبيّة مصلحةً كبرى في اختراق البنية الشيعيّة وتشكيل قواعد عميلة وعاملة لها فيها.
وكم هو جاهلٌ وسطحيّ ذاك الذي لا يعلم بوجود أرضيّة خصبة لمثل هذه الاختراقات في البيت الشّيعيّ. وكيف لا توجد مثل هذه الأرضيّة ، والشّيعة يعانون منذ مئات السّنين من الابتعاد عن القيادة الشرعيّة الواحدة ويفتقدون البنية الاجتماعيّة المتماسكة.
ما الذي تتوقّعه من أُناسٍ رزحوا تحت جميع أنواع القمع والتّنكيل والقتل والتّشريد عبر تاريخهم الممتد، وخصوصًا في العصر الحديث في مناطق مهمّة كالعراق والخليج وغيرها! إنّها نتائج طبيعيّة لأي جماعة تعيش مثل هذه التّهديدات، التي تطال كل أبعاد بنيتها الاجتماعيّة، أن تفرز عملاء لأعدائها، يعملون وفق أجندتهم التي تهدف إلى الهيمنة التّامّة على المجتمعات المسلمة والقضاء على الإسلام الأصيل.
ما يمكن أن يثير الدّهشة هو أن تحافظ البقيّة الباقية من هؤلاء على أصالتها ونقائها وانتمائها العميق للإسلام المحمديّ وتبقى على ولائها لمبادئها وتتمكّن من بناء دولة لها أو تشكيل جماعة مقاومة عقائديّة واعية.
هذا ما ينبغي أن يحمل الباحثين على إعادة النّظر في فهم دور الثقافة، ومعرفة الثقافة المتميّزة، في مجال الدّور الاجتماعيّ، في أسوأ الظّروف وأشدّها رهبةً.
أن تظن أنّ جميع مشايخ الشّيعة يعملون يدًا واحدة لخدمة الإسلام والمسلمين فهو من الحماقة بمكان!
وأن تظن أنّ الحوزات العلميّة الدينيّة للشّيعة كانت بمأمن من اختراقات الأجهزة المخابراتيّة، فأنت تكون قد ضربت المثل في السّذاجة وانعدام الوعي!
وكلّنا قد سمعنا بقصّة الشيخين اللذين أتيا إلى آية الله البروجردي، الذي كان مرجعًا للشّيعة في ذلك الوقت، وهما يعملان على تحريضه على السيّد روح الله الموسوي الخمينيّ قبل انتصار الثورة بعدّة عقود، فتفطّن هذا المرجع الجليل وطلب منهما بصورةٍ مفاجئة أن يخلعا عمامتيهما ويسدلاها ثمّ يعيدا ضبّها وجمعها؛ فما كان من هذين الشّيخين إلّا أن ارتبكا، حيث كُشف أمرهما وعُلم أنّهما من مخابرات الشاه.
أجل، من السّهل أن تتمكّن المخابرات البريطانيّة، المبسوطة اليد، من دسّ عملاء لها في الحوزات وتكليفهم بالاهتمام بدراستهم لتحصيل مراتب دينيّة مرموقة، لكي يتستّروا بغزارة العلم والمحفوظات على مؤامراتهم.. ولا شك بأنّ هذه المخابرات العريقة، المشهورة بالخداع، قد تمكّنت من ذلك بضع مرّات. فكيف إذا تأسّست حوزات دينيّة خاصّة في بعض المناطق، مهمّتها الأساسيّة إخفاء العملاء وتخريجهم!
حقًّا، لماذا نستبعد مثل هذه التّدبيرات التي تبدو طبيعيّة وعاديّة في عمل أي جهاز مخابراتي يريد اختراق المسلمين والسّيطرة عليهم؟!
في بعض الأحيان، أتصوّر أنّ الذي يستبعد مثل هذا الأمر، لا شك بأنّه عميلٌ آخر!
لكن، لنتوقّف قليلًا ونتفكّر في مواجهة هذه الأعمال القذرة. فنتائجها ولا شك كانت ولا تزال كارثيّةً على صعيد البيت الشّيعيّ خصوصًا، والبيت المسلم عمومًا. وتشير الأفعال الكثيرة لهؤلاء المشايخ المعمّمين إلى دورهم البغيض في إثارة الفتن والتّمهيد لتدمير كلّ التّجارب الجميلة التي تجري على قدمٍ وساق داخل البيت الشّيعيّ النّاهض.
فلا شك بأنّ السّلاح الأساسيّ لهؤلاء هو العلم. ولو لم يكن هؤلاء المشايخ على درجةٍ من العلم لما تمكّنوا من التّأثير المطلوب منهم؛ ذلك لأنّ الذّهنيّة الشّيعيّة العامّة هي ذهنيّة تؤمن بالعلم والعقل، وتمتلك رصيدًا من التّجارب يمكّنها من التّمييز بين درجات العلماء؛ فلا يتساوى عندها قارئ العزاء المحض مع المحقّق المجتهد، ولا الخطيب الصّادح مع الفيلسوف المتبحّر، ولا الشّيخ المبتدئ مع العارف الروحانيّ. كل ذلك لأنّ هذه القواعد الشيعيّة، التي تربّت في بيئة المرجعيّة الزّاهدة على مدى القرون، أصبحت أكثر وعيًا لقضيّة العلم وأكثر تمييزًا لأهله؛ فلا يمكن استغفالها بسهولة. لهذا، كان لا بدّ لأعدائها من استخدام المقامات العلميّة والقدرات المعرفيّة لتنفيذ مآربهم، وخصوصًا في ظلّ حالة التمزّق والتشتّت والتفرّق الموجود بين العلماء أنفسهم.
وفي تأمّلٍ وافٍ لكلّ الذين يعملون وفق أجندات المخابرات الأجنبيّة (من إثارة الفتن والتحريض على المقاومين والإساءة لرموز المسلمين) يمكن أن ندرك أنّ هؤلاء، ورُغم امتلاكهم لسلاح العلم، لكنّهم في الوقت نفسه يعانون من سطحيّة وسذاجة ظاهرة. وإنّما يستغلّون وضع الحريّة الفكريّة النسبيّة للعبث العلميّ واستخدام العلم.
لقد قامت الحركة العلميّة الشيعيّة منذ بداياتها على أساس حريّة البحث والاجتهاد. وكان هذا الأساس أحدَ أهم عناصر قوّتها وانتشارها حتّى وصولها إلى مرحلة بناء دولة عصريّة. ومن الطبيعيّ أن يتم استغلال هذه الحرّيّة من قبل طلّاب السّلطة والسّفهاء والعملاء أينما سنحت لهم الفرصة.
فالحوزات الدّينيّة عند الشّيعة لم تمتلك أجهزة قضائيّة أو قوّات بوليسيّة، لأنّها لم ترتبط بالسّلطات الحاكمة ارتباطًا عضويًّا. ولهذا، قد تجد العديد من العملاء والحمقى (ولا يقل خطر الحمقى عن العملاء) داخل هذه الحوزات. وحين يعمل هؤلاء السّفهاء في بعض الحواضر الشيعيّة وغير الشيعيّة سيجدون حماية أمنيّة ودعمًا كبيرًا من الحكومات المتسلّطة على تلك الحواضر. وهكذا ينتفخ هؤلاء ويظهرون بمظهر المرجعيّات الكبرى بالرّغم من ضعفهم العلميّ والمعرفيّ المشهود.
أجل، لبعض هؤلاء معارف غزيرة، لكن الأكثرية السّاحقة منهم تتميّز بالخواء والالتقاطيّة وفقدان المنظومة الواضحة والانسجام الفكريّ؛ وهي نقاط ضعفهم الكبرى التي يجب العمل عليها بقوّة.
فإذا كان سلاح تلك الأجهزة هو العلم، فإنّ الردّ الأمثل عليه يكون بالعلم أيضًا. فثقافة الشّيعة عابقة بأروع وأعمق وأجمل وأوسع المعارف التي لا نظير لها في كلّ العالم. ولهذا، فإنّ هذا التّهديد، الذي أوجده أعداء الأمّة، يمكن أن يتحوّل إلى فرصة مهمّة لبيان المزيد من روائع كنوز الفكر الشّيعيّ. وهذا ما جرى في مقاطع مختلفة من التاريخ، وخصوصًا في العصر الحديث. ولا ننسى رائعة الإمام الخميني (قدس سره) في كتابه كشف الأسرار الذي كان ردًّا صريحًا على أحد عملاء السّفارات الأجنبيّة في إيران قبل أكثر من ثمانين سنة.
بالطّبع، إنّ البقاء على حالة الانفعال والدّفاع لن يكون لمصلحة جبهة الحقّ، لأنّ المُهاجم يمتلك دومًا أفضليّة الإبداع والمبادرة، فيبقى على حالة المشاغلة لأهل الحقّ وقد يهزمهم في نهاية المطاف.
فالمطلوب هو التّعامل بروح المبادرة والتّخطيط البعيد المدى، انطلاقًا من فهم عظمة الذّخائر المعنويّة الموجودة والعمل على إظهارها وقذف حقائقها على باطلهم، حتّى يزهق كما هو أهله.
وستكون القوّة الحقيقيّة والإنجازات الكبرى دومًا وليدة المعرفة الحقّة العميقة الأصيلة النّافعة التي ينتظرها أهل العالم، وسينكشف خفافيش الليل حين تسطع شمس الحقيقة الكبرى.
المصدر: مركز ألف باء للدراسات