السيد عبّاس نورالدين
كل من يتواجد في البيئة الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) يدرك جيّدًا أنّ لبضعة الرّسول المصطفى صلّى الله عليه وآله مقامًا عظيمًا؛ ويتحدّث عنه الأئمّة العظام والعلماء الكبار بكلّ إجلال، ويقارنونه بمقامات أولي العزم من الرّسل!
فمن الخصائص التي حازت عليها هذه الإنسانة العظيمة أنّها كانت محل مخاطبة جبرائيل الأمين، المعروف باختصاصه بتبليغ الوحي لأفضل رسل الله تعالى. ويعني ذلك أنّ ما يحمله هذا الأمين ويتحمّله عادةً هو من سنخ المعارف والحقائق التي لا يقدر على تحمّلها إلّا من كان في المقام الأعلى من الكمال والرّوحانيّة.
ومن مقاماتها العظيمة أنّها ـ عليها السلام ـ أضحت حجّة الله تعالى على أفضل حججه؛ كما جاء في الحديث: "نحن حجج الله وفاطمة حجّة الله علينا".
ولو أردنا تعداد هذه المقامات الرفيعة وذكرها لاحتاج الأمر إلى أكثر من مقالة. لكن ما يستوقفنا هنا هو السرّ الموجود في هذه القضيّة. فلماذا كانت هذه السيّدة العظيمة في هذا العالم الأرضيّ المحدود، الذي لا يمكن أن يكون محلًّا لظهور كمالاتها وخصائصها؟ وما الذي أدّى إلى خفاء شأنها إلى هذا الحدّ، حتى قيل أنّ تحقّق هذه المقامات في امرأة بكمال الأنوثة يجعل الاستفادة منها أمرًا غاية في الصّعوبة، وذلك طبعًا في عصر كان وصول المرأة إلى أي شأن في غاية الاستبعاد؟!
إن لم يكن تحقّق هذه المقامات في الحياة الدنيا لاستفادة أهلها وتأسّيهم بها، فلماذا يكون؟
ينبغي أن نعترف أنّنا كرجالٍ ونساء لم نتعرّف بعد إلى الطّريق الذي سلكته هذه الصدّيقة الكبرى في عروجها إلى قمم الكمال؛ ولهذا يبقى مقامها الأسنى بعيد المنال وفق مناهج التّربية المتعارفة. لكن أقل ما يمكن أن يُقال هنا هو أنّها عليها السّلام كانت ثمرة فؤاد النّبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله، بحيث لو قيل له من الذي استقبل كل تربيتك وصناعتك لقال عليّ وفاطمة.
وأعتقد أنّ خفاء هذا الطّريق على البشريّة ليس عبثًا، فهو يفتح بابًا خاصًّا وفريدًا. ويمكن أن نتعرّف إلى هذا الباب من خلال تجارب الذين سلكوه أو استفادوا منه.
ففي كلّ زمان نتعرّف إلى أُناس كان لهم شرف الاتّصال المعنويّ بسيّدة نساء العالمين فحصلوا من الفوائد والكمالات والفضائل ما لا يدخل في نطاق السّلوك العاديّ أو حتى الاستثنائيّ!
فما الذي تقوله لنا هذه التجارب؟
هنا أتصوّر أيضًا أنّ الرسالة الكبرى لمثل هذه الاستفادات المذهلة هي أنّ لله تعالى بابًا لا ندخله بواسطة العمل، وإن لم يكن معارضًا للعمل طبعًا؛ بل هو باب التوسّل والاعتقاد والمودّة والظنّ الحسن والمواساة.
فمن توسّل بمقامها بعد الاعتراف بالعجز عن إدراكه، سيعرف جيّدًا معنى التوسّل. ومن اعتقد بعلوّ مقامها كان له حسن الاعتقاد. ومن رزقه الله تعالى مودّتها أدرك حقيقة المودّة في القربى. ومن كان له حسن الظنّ بالله شاهد تحقّق ظنّه فيها. ومن واساها في مصائبها وآلامها عرف حقيقة ما جرى في العالم. ففي كل هذه الأمور نجد سيّدة نساء العالمين تشير إلى نافذة خاصّة تتّصل بعالم اللاهوت الأعلى.
ولو كان لنا أن نختصر إحدى الحقائق الكبرى في ارتباطنا ومعرفتنا بالله تعالى، لقلنا أنّها عبارة عن مقام فوق المعرفة والتصوّر والإدراك والبلوغ. وكل ذلك كانت فاطمة الزهراء الكبرى مثالًا أعلى له. :{ولَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْض}. [سورة الروم، الآية ٢٤].
سلام الله عليكِ أيتها الممتحنة قبل أن يخلقك الله تعالى في عالم الدنيا...
المصدر: موقع إسلامنا