آية الله السيد محمد حسين فضل الله
في الحقيقة، هناك اتجاهان في نظرة الشيعة إلى الوحدة:
الاتجاه الأول، وأصحابه قلة، يرى أنَّ مشروع الوحدة يعمل على تذويب الشيعة في المحيط الإسلامي العام، ويؤدي إلى فقدان الركائز الأساسية لفكرة التشيّع، وهي الإمامة، وما يتبعها من قضايا فكرية وشرعية، فيتحوّل الشيعة، بفعل ذلك، إلى سنّة، وبذلك، لن تكون عملية الوحدة إلا أسلوباً من أساليب احتواء فئة من المسلمين لفئة أخرى، لا عملية جمع للمسلمين على أساس الحقّ. ويضيف هؤلاء: إنَّنا قد نوافق على عملية التذويب والاندماج إذا كانت القضية هامشية طارئة، يمكن للإنسان أن يتجاوزها كما يتجاوز الكثير من القضايا الحياتية الطارئة، للمحافظة على المصلحة العامة، ولكنَّ القضية تمثّل، في وعينا الفكري، قضية التزامنا الإسلامي بخطّ الحقّ في العقيدة والتشريع، لأنَّ مسألة الإمامة ليست مسألة شخص أو أشخاص، أو موقف سياسي معين، بل هي مسألة القاعدة الشرعية التي انطلقت القناعة فيها من الدليل والبرهان، فلا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها، انطلاقاً من تسوية خاضعة لأوضاع معينة.
وهكذا كانت نظرة هذا الاتجاه إلى مسألة الوحدة، نظرة سلبية تحمل الكثير من الحذر والخوف والشك والارتياب.
الاتجاه الثاني، يرى أنَّ مسألة الوحدة ليست مسألة إدخال الشيعة في محيط السنّة أو العكس، بحيث تستهدف تذويب الشخصية الفكرية الخاصة التي يحملها كلّ واحد منهما، بطريقة عاطفية، بل هي مسألة روحية نفسية في البداية، كما هي مسألة فكرية علمية في النهاية، لأنَّ قاعدة التفكير الوحدوي، ترتكز على أساس الإيحاء للمسلمين بضرورة التمسك بالروحية الإسلامية التي ينبغي أن تطبع شخصيتهم فيما تمثّله الشهادتان من عقيدة والتزام وحركة في حياتهم العامة والخاصة، مهما اختلفت نظرتهم إلى التفاصيل، الأمر الذي يثير فيهم مشاعر الوحدة، ويحلِّق بهم في آفاقها، ويوحي لهم بمسؤولياتها، لتكون هذه الروحية سبيلاً من سُبل اللقاء الذي يساعد على التفاهم والتحاور والتعاون، فيمكن للشيعي أن يقنع السنّي بطريقته في فهم الإسلام وفي ممارسته، كما يمكن للسنّي أن يقنع الشيعي بطريقته وبممارسته، ويمكن لهما أن يكتشفا، من خلال اللقاء الفكري، سبيلاً آخر.
ويضيف أصحاب هذا الاتجاه قائلين: إنَّ النتائج الإيجابية التي يحصل عليها المسلمون الشيعة في مسألة الوحدة، لا تُقاس بالنتائج السلبية التي يعيشونها في مسألة الفرقة والخلاف الفكري والعملي، الذي يتحرّك من موقع العقدة الذاتية لا من موقع المصلحة العامة.
ويرون أنَّ حركة أيّ صاحب فكر تتعاطى مع المحيط العام بروحية منفتحة إيجابية، قد تستطيع أن تحقّق لفكرها الكثير من المواقع المتقدّمة، من خلال ما تملكه من حرية الجوّ، ومن طبيعة الانفتاح، ممّا لا تستطيع أن تحقّقه في إطار الحدود الفاصلة التي تفصل بين هذا الفريق أو ذاك، لأنَّ هذا الفصل يوحي لكلّ منهما بالحاجة إلى الاستعداد المسبق لتحصيل المناعة ضدّ إمكانات التأثّر بالفريق الآخر، وبالتالي لإيجاد حاجز نفسي ضدّ أيّ شيء يثيره الفريق الآخر، من أفكار وطروحات وحلول، ما يجعل من الحالة النفسية لكلّ منهما، هي كيف يمكن أن يسجّل نقطة ضدّ الأفكار التي يثيرها، لا كيف يناقشها وينظر في طبيعتها الفكرية من حيث الخطأ والصواب.
وينتهي أصحاب هذا الاتجاه إلى الفكرة التي تقول: إنَّنا، كشيعة، يمكننا إقناع المسلمين الآخرين بصحة أطروحتنا الفكرية في فهم الإسلام، فيما نعتقد أنَّه الحقّ، من خلال ما نملك من أدلة وبراهين، وذلك في نطاق الوحدة، أكثر مما نستطيع ذلك في ظلّ الوضع الطائفي الحاقد.
خطوات ضرورية على طريق الوحدة:
والآن، ومن جديد، نطرح السؤال: ماذا عن الشيعة والوحدة؟
إنَّنا نتبنّى اتجاه السير في حركة الوحدة الإسلامية، ونرى أنَّه السبيل الأمثل لانطلاقة الإسلام في العالـم، الأمر الذي يمثّل النهج الشرعي للسير العملي للإنسان المسلم في ما يُرضي اللّه، وفي ما يقرب إليه، كما يمثّل النهج الواقعي لاستعادة سيطرة الإسلام على الحياة، وتحقيق العزة والكرامة للمسلمين، في جميع مجالاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك على أساس عدّة نقاط:
1 ـ إنَّ مشروع الوحدة الإسلامية، ليس مشروعاً استعراضياً عاطفياً، يرمي إلى إلغاء المواقف الفكرية بحركة انفعالية سريعة، بل هو مشروع يرمي إلى تكوين عقلية موضوعية هادئة، تناقش المواقف الفكرية بهدوء واتزان ومسؤولية، لتكون الساحة للأفضل والأقرب إلى الحقيقة الإسلامية، من قاعدة الحجة والدليل، وبذلك، فإنَّها تلغي الخوف من الاحتواء، من خلال تأمين الضمانات العملية، للوصول إلى ذلك الهدف.
2 ـ إنَّ الانطلاق من صفة الإسلام في أيّ تحرّك فكري أو عملي، هو الذي يحقّق لأيِّ فريق إسلامي القدرة النفسية على مواجهة أيّة قضية فكرية أو شرعية، بجدية الاهتمام، وبسعة الأفق، ورحابة الصدر، والبعد عن التشنج وإثارة الحساسيات الذاتية، لأنَّ القضية عنده ـ في مجملها ـ هي ماذا يقول اللّه ورسوله، وما يقوله الإسلام من خلال ذلك، بعيداً عن كلّ مألوف أو موروث، فإمّا أن تكون هذه المسائل الشرعية والفكرية ثابتة بالطرق الصحيحة الاجتهادية، فتقبل، وإمّا أن تكون غير ثابتة، فتُرفض، وهذا هو الذي يوحي بتغليب الصفة العامة على الصفة الخاصة، أو تأكيد الصفة الخاصة بمقدار انسجامها مع أجواء الصفة العامة. وقد يكون من الطبيعي أن نركّز على دور التربية السليمة في الحصول على هذا الأسلوب، في بناء الشخصية الإسلامية، فيجد السنّي صفة السنّية كوجهة نظر في فهم الإسلام، كما يجد الشيعي صفة الشيعية منهج فكر في فهم الإسلام، وبذلك، تتحوّل الخصوصية إلى وسيلة فكرية لفهم الفكرة العامة.
3 ـ أن تتحوّل صيغة الأبحاث الفكرية القائمة على مناقشة الأفكار الإسلامية المختلفة، من صيغة تتخذ صفة الهجوم والدفاع، التي تثير ـ في داخلهـا ومن حولـها ـ أجواء الحماس والانفعال، عند تسجيل نقطة هنا ونقطة هناك، إلى صيغة تأخذ شكل البحث والتحليل الدقيق للقضايا المطروحة في البحث، لأنَّ هذه الصيغة توحي بانطلاق البحث من مصادره الأصيلة، بطريقة هادئة موضوعية، تلتقي بالفكرة، أمام احتمالين يتحركان في نطاق وجهتي نظر متنوعة، وبذلك، يمكن الوقوف معهما، أمام الجذور العميقة للفكرة، ليُعرف في نهاية المطاف، كيف يلتقي هذا أو ذاك بالجذور، ليكون هذا هو الوجه الصحيح للفكرة، بعيداً عن أن يكون هذا الاحتمال وجهة نظر زيد أو وجهة نظر عمرو، وهذا هو المنهج القرآني الذي ركز على الموضوعية والحكمة والطريقة التي هي أحسن، والانطلاق من مواضع اللقاء إلى مواطن الخلاف.
4 ـ أن يعمل الشيعة على توضيح الخطّ الإسلامي الأصيل في ما يعتنقونه من أفكار ومفاهيم في جانب العقيدة، أو في نطاق الأشخاص، أو في تفاصيل الشريعة، وذلك بالأساليب المتحركة في ساحة الصراع، وبالعمل على كتابة ذلك بطريقة واضحة صريحة، وأسلوب علمي لا تعقيد فيه، وتسهيل وصول النشرات المتضمنة لهذه الأفكار إلى كلّ مكان في العالـم، من أجل تطويق الدعايات المضادة التي تعمل على تشويه الصورة الإسلامية لفكرة التشيّع، ولا سيما في ما يتعلّق بالموازين الإسلامية لفكرة التوحيد والشرك، والغلوّ والاعتدال في الأشخاص، وقضية تحريف القرآن، أو موضوع مصحف فاطمة، وعصمة الأئمة، وما إلى ذلك من الأمور التي يُراد إثارتها من أجل إبقاء الهوّة عميقة بين الجماهير الإسلامية، من السنّة والشيعة.
5 ـ أن نعمد من جديد إلى غربلة العقائد والعادات والفتاوى الشائعة لدى الأمّة، من أجل إخضاعها للمقاييس الفنية الاجتهادية في فهم الكتاب والسنّة، وفي تقويم الأحاديث في صحتها وضعفها، انطلاقاً من دراسة شخصية الراوي، ومتن الرِّواية، لأنَّنا نلاحظ أنَّ كثيراً من القضايا التي يحملها النّاس في أفكارهم، لا ترجع إلى مصادر اجتهادية صحيحة، بل إلى التسامح في القضايا التي لا تمثّل حكماً شرعياً، كقضايا الثواب، أو العقاب، أو الفضائل، أو غير ذلك من الأمور، ممّا قد يرويه الوضّاعون والغلاة والضعفاء، الذين لا تقوم برواياتهم حجة في دين أو دنيا.
إنَّ ذلك هو السبيل للوصول إلى الإسلام الصحيح في كلّ المفاهيم الفكرية والأحكام الشرعية، الإلزامية وغيرها، لأنَّ أيّ مفهوم وأيّ حكم، إنَّما هو جزء من الإسلام، فإذا انحرفت الصورة فيه، انحرفت الصورة الإسلامية في وعي الإنسان المسلم.
ولا يقتصر هذا الأمر على الشيعة وحدهم، بل يعمّ السنّة أيضاً، فيما لديهم من تركة ثقيلة من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، التي كوّنت مفاهيم متنوعة غير إسلامية في مصادرها الأصيلة.
6 ـ أن نعمل على تشجيع اللقاءات بين الفعاليات الإسلامية العلمية، من السنّة والشيعة، من أجل إيجاد علاقة حميمة فيما بينها من جهة، وتحويلها إلى علاقة علمية فكرية يتمّ فيها التعارف والتلاقي بين الأفكار، ثمَّ الحوار العلمي الهادئ من جهة أخرى، ليعي كلّ منهما الطريقة التي يفكر بها الآخر، ليعرف أنَّه لا يتحرّك من موقع الرغبة في الخطأ من قاعدة الخطأ، بل يتحرّك من موقع الإخلاص للحقّ من قاعدة الحقّ، حتى لو أخطأ طريق الوصول، وبذلك، يعرف الفريقان أنَّهما يخطئان، إذا أخطئا، من موقع اجتهادي، كما يصيبان، إذا أصابا، من الموقع نفسه.
7 ـ أن يعيش الشيعة في تحرّكهم السياسي من مواقع السياسة الإسلامية العامة، لأنَّهم لا يستطيعون الوصول إلى الأهداف الكبرى في الحرية والعزة والاستقلال السياسي والاقتصادي، إلا في الدائرة الإسلامية الكبيرة، لأنَّ دروس الاستعمار علمتنا أنَّه يملك كلّ أوراق اللعب في الدائرة الطائفية، بينما يفقد أكثر الأوراق في الدائرة الإسلامية، فلا مجال للتفكير في أنَّ هناك قضية شيعية يمكننا أن نطرحها في الساحة الدولية، لأنَّ الاستعمار سيطرح أمامها قضية سنية، وبذلك، يشغل الساحة بالنزاع الطائفي الذي يمهد له السبيل للسيطرة على الموقف كلّه.
إنَّ مثل هذا الخطّ قد يواجه مصاعب كثيرة في الساحة الفعلية، وذلك بفعل وجود أوضاع طائفية حادة في المجتمع الإسلامي الآخر، الذي قد يُصوّر اندفاع الشيعة في الدائرة الإسلامية الكبيرة، بأنَّها حالة ضعف أو استضعاف، بهدف منع سلوك هذا التوجه، أو استغلال ذلك لمصالح فئوية خاصة.
ولكنَّنا نؤكد هذا الخطّ، على أساس الهدف الكبير، الذي لا بُدَّ من طرحه في الساحة، لتوعيتها ودفعها للانطلاق بالقضايا الإسلامية في الفضاء الرحب والهواء الطلق، على أن يتحرّك العاملون بسياسة المراحل التي تحمي الساحة من ردود الفعل الصعبة التي قد تهدم البيت على رؤوس الجميع.
وأخيراً، إنَّنا نعتقد أنَّ الإخلاص للقضايـا الكبيرة التي جعلهـا اللّه أمانة في أعناقنا، يقتضي منّا مرونـة إسلاميـة عميقـة، وهـذا مـا عشناه في الأسلـوب العملي الذي أرادنا أهل البيت(ع) أن نسير عليه. ونجد أمامنا ـ في هذا المجال ـ أسلوب الإمام عليّ أمير المؤمنين(ع)، في الفترة التي عاشها بين وفاة الرسول(ص) وخلافته، في ما حدّثنا عنه من أجوائها، وموقفه من تلك الأجواء:
"فما راعني إلاَّ انثيال النّاس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمَّد(ص)، فخشيت إن أنا لـم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنَّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه"(1).
وكما في قوله(ع) عندما سمع قوماً من أهل العراق يسبُّون أهل الشام: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتـم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: ربَّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"(2).
وقول الإمام الصادق(ع) في حديث عن معاملة الشيعة لبقية المسلمين: "صلُّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع النّاس، قيل هذا شيعي، فيسّرني ذلك، اتقوا اللّه، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً"(3).
إنَّ هذه الكلمات وأمثالها، تثير فينا الروح الإيجابية في مواجهة الأخطاء الكبيرة التي تواجه الواقع الإسلامي. ونحن لا نعتقد أنَّ الأخطار التي واجهت الإسلام والمسلمين في عهد الخلفاء، والتي تعاطى معها الإمام عليّ(ع) بروحية اللقاء والتعاون لتحقيق مصلحة الإسلام العليا، هي أشدّ من الأخطار التي تواجه الإسلام الآن، بل نعتقد أنَّها أشدّ من الماضي، وذلك هو وحده الذي يفرض علينا الانفتاح على الساحة الإسلامية الكبرى، لنكون جزءاً من الأمّة في قضاياها الكبيرة، لنلتقي عندما نلتقي من موقع الإسلام، لمصلحة الإسلام، ولنختلف عندما نختلف من موقع الإسلام، لمصلحة الإسلام، ولنعطي قضية الإسلام كلّ ما عندنا من فكر وحركة وجهاد وإيمان، ولنستجيب لنداء اللّه: {إنَّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون}(الأنبياء؛92).
الهوامش:
(1)نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الكتاب:62، ص:340.
(2)م.ن)، الخطبة:206، ص:236.
(3) بحار الأنوار، ج:78، باب:29، ص:372، رواية:1.
المصدر: موقع بينات