ورد في الحديث الشريف إشارات وتنبيهات على ان الرجال قد كمل منهم الكثير، ولم يكمل من النساء إلا القليل، وأم البنين عليها السلام كانت ولا شك ممن كملت محاسنها وترقت فضائلها لتصبح أهلا لان تكون بابا للحوائج يتوجه إليها كل محتاج ومكروب، ولم تكن هذه المنزلة لتتسنى لها من دون سعي شخصي وكدح نحو الكمال والترقي في سلم ودرجات الإيمان ومن دون نشأة حسنة وتربية طاهرة تلقتها من بيتها وأسرتها التي نشأة في ربوعها، ومن دون عناية واهتمام وتربية وتكفل الإمام المعصوم لها، ومن دون رعاية الله سبحانه لها أولا وآخرا، فهي أشبه شيء بمريم ابنة عمران عليها السلام فقد أنبتها الله منبتا حسنا، كما أنبت مريم منبتا حسنا، وقد كفلها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما كفل زكريا مريم بنت عمران، واصطفاها لتنجب أربعة أبطال شاركوا أخاهم الحسين عليه السلام نصرته وإحياء شريعة الله سبحانه، بعد ان كادت تموت على يد الأمويين ومن سبقهم من الحكام، كما اصطفى مريم بنت عمران لتنجب نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، الذي أحيا دين الله وشريعته التي أماتتها اليهود وضيعت أحكامها.
أم البنين تداوي جراح أيتام الزهراء عليها السلام
كان أيتام الزهراء عليها السلام لهم في كل زاوية من زوايا البيت ذكرى تشدهم إلى أمهم الشهيدة، وحيث ما يلتفتون يرون أثرا من آثارها، فهنا كانت تمشط شعر الحسنين وهي تقرأ لهم القرآن بصوتها الحزين الخاشع، وهناك تروي لبناتها بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعلمهم بعض الأحكام، وهناك كانت تصلي وتدعو وتسبح وتبكي، وهنا كانت تطبخ وتدير الرحى.
وهنالك مكان بقي عالقا بجميع تفاصيله في أذهان أولاد الزهراء عليها السلام هذا المكان الذي كلما نظر إليه أبناء السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع)دمعت عيونهم وخنقتهم العبرة ؛إنه المکان الذي رأوا فيه أباهم واضعا أمهم الزهراء وهي في ريعان الشباب ومقتبل العمر على مغتسلها يقلبها وهو ينظرون وينتظرون في وجل وخوف تلك اللحظات التي ستحمل أمهم من أمام أعينهم لتودع في حفرتها وملحودة قبرها، وتغيب عن نواظرهم، والأوجع لقلوبهم ان الأطفال كل الأطفال إذا ما ماتت أمهم فان باستطاعتهم زيارة قبرها متى ما أرادوا وأحبوا ، إلا أن أولاد البتول عليها السلام محرومون من هذه الخصلة فلم يكن باستطاعتهم زيارة قبر أمهم إلا في السر وتحت طوق شديد من السرية والتكتم.
في ظل هذه الأحزان والذكريات دخلت السيدة أم البنين عليها السلام دار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فكانت المرأة المواسية والمخففة لآلام وأوجاع قلوب أيتام الزهراء عليها السلام ، فلم يشعروا معها بشعور زوجة الأب ولا فضلت أولادها عليهم، فكانت تشعرهم بأنها خادمة لهم راعية لشؤونهم ، وعلى هذه الروحية ربت أولادها الأربعة ومواقفهم وأقوالهم وأفعالهم يوم عاشوراء توضح هذه الحقيقة بشكل جلي.
کلمات قيلت في حق السيدة أم البنين عليها السلام
قال أبو النصر البخاري في كتابه (سر السلسلة العلوية): (لم يعقب أمير المؤمنين من فهرية بعد فاطمة عليها السلام إلا منها، ولم تخرج أم البنين إلى احد قبله ولا بعده) .
وقال الشيخ المامقاني في كتابه (تنقيح المقال): (ويستفاد من قوة إيمانها إن بشرا كلما نعى إليها احد أولادها الأربعة قالت ما معناه اخبرني عن الحسين فاخذ ينعي لها أولادها واحدا واحدا حتى نعى إليها العباس عليه السلام قالت: يا هذا قطعت نياط قلبي أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، فها هي كما ترى قد هان عليها قتل بنيها الأربعة إن سلم الحسين عليه السلام ويكشف هذا عن أن لها مرتبة في الديانة رفيعة) .
وقال النقدي في كتابه (زينب الكبرى): (كانت من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهم السلام كما كانت فصيحة بليغة لسنة ذات تقى وزهد وعبادة) .
ووصفها عمر كحالة في كتابه (أعلام النساء) بقوله: (شاعرة فصيحة) .
ونقل المازندراني في (معالي السمطين) نقلا عن كتاب (كنز المصائب) قائلا: (إن ولدها العباس عليه السلام اخذ علما جما في أوائل عمره عن أبيه وأمه) .
فائدة إحياء ذكرى السيدة أم البنين عليها السلام
إن إحياء ذكرى أم البنين عليها السلام وذكرى سائر المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وذويهم ومن والاهم، كالعلماء والصالحين والصالحات، من أهم ما يلزم على المؤمنين القيام به والتشجيع عليه، وذلك لأجل تنظيم الحياة تنظيماً صحيحاً يوجب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، لما في هذه المناسبات من دروس وعبر.
ففي ذكرى أم البنين عليها السلام مثلا تتذكر النساء هذه المرأة الطاهرة، العفيفة الشريفة، الحافظة لنفسها، الذاكرة لله واليوم الآخر، المديرة لبيتها،المراعية لحقوق زوجها، المربية لأولاد صالحين و.. فتتعلم منها وتقتدي بها، فتطبق هذا المثال الطاهر على حياتها، وتعكس أخلاقها على بيتها، لتعيش حياة طيبة هانئة مستقيمة، وبذلك تسعد المرأة التي تلقت الدروس من مدرسة أم البنين عليها السلام وإتبعتها، ويسعد بها غيرها من أولادها وذويها، فيكون الإحسان عائداً لنفسها قبل غيرها، قال سبحانه:(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها).
بالإضافة إلى أن ذكرى أم البنين عليها السلام وذكرى العظماء رجالاً أو نساءً، موجبة للأجر والثواب فقد ورد:«من ورّخ مؤمناً فكأنما أحياه»، فكما أن إحياء الإنسان يوجب الخيرات، كذلك إحياء ذكراه،قال تعالى:( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
بالإضافة إلى أن ذكرى الأخيار والخيّرات تملأ النفس الإنساني بالصحيح النافع والمنهج المسعد، والعكس بالعكس، وعندئذٍ تعكس النفس التي تلقت الذكرى شيئا من تلك الأسوة .. إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وهذا تكليف على كل إنسان بقدر وسعه، قال سبحانه:(لايكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها).
وعلى أي حال، فسيرة العظيمات تربي العظيمات،، بل وحتى العظماء في الأمور المشتركة كالعبادة والزهد والتقوى، فسيرتهن تربية للرجال والنساء.. والبنين والبنات.. للبشرية جمعاء.
المصدر: مكتبة العتبة الحسينية المقدسة