الشيخ علي جمعة
والمسائل التي تتعلق بالرؤية الأساسية بين السنة والشيعة قد تنحصر في خمسة مسائل إكتنفها كثير من الغموض عبر التاريخ، وولدت محنًا بين الفريقين، وإن كانت هذه المحن في أصلها سياسي، إلا أن هذه الخلافات الخمسة كانت مبررًا عند كثير من الناس بإشعال الفتنة بين الفريقين، وتعميق الهوة بينهما، وهو ما لا نرضاه في حياتنا المعاصرة، حيث إطلع كل فريق على ما يقوله الآخر، ونشأت دعوات التقريب، وتأكدت ونمت وحققت مكاسب كبيرة، ولا يزال أمامنا الكثير من الجهد، حتى يتم القضاء على هذا الإحتقان المفتعل، الذي لا يرضى عنه الله ولا رسوله ولا المؤمنون.
1-إتهمت الشيعة بالقول بالبداء، وكلمة (البداء) تعني إن الله سبحانه وتعالى، وجل جلاله، يغير رأيه، وهو ما أنكرته الشيعة تمامًا، وفسرت ما ورد من عبارات حول هذا المصطلح، بما فسر به أهل السنة (القضاء المعلق) فأهل السنة يقولون : إن القضاء منه مبرم، ومنه معلق، أما الذي هو مبرم فهو علم الله الذي لا يتغير ولا يتبدل، وأما الذي هو معلق، فذلك المسطور في اللوح المحفوظ، والذي يمكن أن يغيره الله سبحانه وتعالى بسابق علمه وبإرادته المطلقة وقدرته التي لا نهاية لها، وحملوا عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلا الْبِرُّ) [رواه الترمذي] وحديث : (لَا يَأْتِ ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ) [أخرجه البخاري].وعلى ذلك فلا خلاف في الحقيقة، إنما هو خلاف موهوم نتج من سوء الفهم، ومن حمل الألفاظ على غير معانيها الاصطلاحية التي استقرت في أذهان الناس، وهذا ما يعرف بالخلاف اللفظي، وهو ما لو إطلع كل فريق على ما قاله الآخر لقال به.
2-القول بتحريف القرآن، ولقد إعتذرت الشيعة عما ورد مما يوهم هذا المعنى القبيح، بأن هذا اللفظ بإستعمال القراءات الشاذة التي يذكرها أهل السنة أيضا في كتبهم، غير معتبرة ولا معتمدة، لأنها لم ترد بسند متواتر عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الشيعة والسنة على السواء، يقولون بحفظ كتاب الله الذي بين أيدينا، والذي لم يختلف عليه المسلمون قط عبر العصور، وهو ذلك الذي بين دفتي المصحف المعروف المشهور، وكل الأمة يقولون بحفظه كما ورد في سورة الحجر : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر :9] فعاد الخلاف أيضا إلى اللفظ دون المعنى.
3- قضية من أحق بالخلافة، سيدنا علي -كرم الله وجه ورضي الله عنه- فقط، وهو قول الشيعة، أو ترتيب الخلافة كما حدثت أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهو قول أهل السنة، وكما ترى فإنها مسألة تاريخية، لكنها مثلت –ولا تزال تمثل- عند الفريقين أساسًا يبنى عليه غيره، وهي ما تعرف بقضية الإمامة وهي أنها لابد فيها من الوصاية، والنصر، وهو ما تدعيه الشيعة، أو أنها مسألة تتعلق بالاجتماع البشري، وهي متروكة لاختيار المسلمين عامة بالانتخاب الحر، وهو ما تدعيه السنة.
4-التقية، وهي عند الشيعة، وتعريفها السني : أن يتكلم الإنسان بغير ما يعتقد، وعدوا هذا بابًا من أبواب النفاق، أو الكذب، أو الضعف، أو الخداع، أو نحو ذلك من الصفات الذميمة، إلا أن الشيعة أجابوا على هذا بأن تعريفها يكاد يكون حكاية مذهب الخصم، وحكاية مذهب الخصم وإن خالفت معتقد من يتكلم، إلا أنها ليست واحدة من هذه المعاني القبيحة المذكورة التي تتردد بين النفاق والخداع، وإنما هو وضع قد تمليه على الإنسان ظروف سياسية خاصة في عصور الجور، وتقييد حرية الرأي، فيضطر الإنسان إلى أن يحكي مذهب الغير، وليس إلى الكذب أو نحو ذلك.
5-وأمثال هذه الخلافات، والتي يمكن في الحقيقة تجاوزها لا يمكن أن نقبل في عصرنا الحاضر أن تكون سببًا لدم يراق بين الفريقين، ولا لعدوان يسبب حربًَا أهلية فيما بيننا، بل إن الوحدة فرض ديني يجب على الأمة كلها أن تمتثل إليه، وهو ما رأيناه في كلام القيادات الواعية من الفريقين، ورأيناه في حركة التقريب التي احتضنتها مصر من أواسط القرن العشرين، ثم شاعت منها إلى سائر بلاد العالم، نسأل الله أن يوحد قلوب أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الخير.
المصدر: رسالة التقريب/العدد54