يوم التاسع من كانون الثاني/ يناير الماضي كانت البداية، مقاومون يمطرون سيارة مستوطن غرب نابلس شمال الضفة المحتلة بالرصاص، ويردونه قتيلًا. جُنّ جنون دولة الاحتلال، فاستنفرت جيشها ومخابراتها، بحثًا عن الفاعلين. العملية كانت قاسية وحملت دلالات عديدة من حيث التوقيت والمكان، ومن قبله خشية الاحتلال من دخول عهد جديد مستنسخ من مشاهد يوميات انتفاضة الأقصى المسلحة.
في الثامن عشر من الشهر ذاته، خرجت قوات كبيرة من جيش الاحتلال تحت جنح الظلام لمنازلة الخلية المنفذة، وولت وجهها شطر منطقة وادي برقين التي تبعد مئات الأمتار عن مخيم جنين، ذلك المكان الذي يعرفه جنود الاحتلال جيدًا.
جرت رياح المقاومين بما لا تشتهي سفن الاحتلال، العقل المدبر للخلية استطاع الإفلات من قبضة جنود النخبة والوحدات الخاصة والقناصة المدربين والكلاب المفترسة، فيما تحول مقاوم آخر لساتر حمى رفيقه بصدره ومسدسه الصغير الذي أدمى اثنين من جنود الليل.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ اسم أحمد نصر جرار يتردد على ألسنة الفلسطينيين، عدة أيام فقط حّولت شابًا مغمورًا إلى مقاوم معروف، تناقل الناس أخبار البطل وصورة الثائر، نقشوا اسمه بالرمل على شواطئ غزة، نظموا له القصائد وألّفوا له "الهتافات"، فيما كانت الأمهات تكتفي بالدعاء له.
تحوّل جرار لمجدد وملهم، أعاد نفس المقاومة المسلحة إلى الضفة التي أدماها بطش الاحتلال واستنزفها التنسيق الأمني، سار على خطى والده الشهيد وحمل راية المقاومة من خلفه.
الإسرائيليون أيضًا عرفوا أحمد، صرخوا في وجه قادتهم: "لا يمكن العيش في الشمال إلّا بعد الوصول إلى جرار". رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قال عنه: "لن نسمح لأحمد جرار بكسر روح إسرائيل". هم عرفوا تمامًا أنّ بقاء جرار يعني إهانة لقوى أمنهم وتحطيمًا لكبرياء مخابراتهم.
واصلت دولة الاحتلال بحثها عن الشاب، فكثّفت تواجدها العسكري على الشوارع المؤدية لجنين، وأبقت طائرات استطلاعها في سماء المدينة، واقتحمت قرى اليامون والسيلة الحارثية والكفير والشهداء عدة مرات، وهدمت عددًا من المنازل في بلدة برقين، واعتقلت العشرات من أقاربه وأصدقائه ومعارفه، علّها تصل لطرف خيط يدلهم على المطارد الأشقر ذو العينين الخضراوين.
دولة تقتفي أثر شاب في بداية العشرينات من عمره، وتلاحقه بحثًا عن كرامتها المفقودة، دولة لديها من الإمكانيات التكنولوجية والبشرية الأكثر تطورًا في العالم، تفشل في الوصول إليه بعد محاولات مستميتة.
ظل المشهد معتمًا في نظر دولة الاحتلال، ومزهوًّا بالكرامة في نظر الفلسطينيين؛ إلى أن حانت ساعة القدر، ففي صبيحة السادس من شباط/ فبراير استفاق أهالي بلدة اليامون غرب جنين على صوت مركبات الاحتلال الثقيلة تهدم مبنى مهجورًا، وبعد انقشاع غبار المعركة غير المتكافئة، أعلن الاحتلال انتهاء العملية، وتصفية المطلوب رقم واحد في الضفة الغربية.
رحل جرار وإلى جانب جثمانه المسجى رفيقته السمراء الطويلة ممدة، كانت خير مؤنس في رحلة مطاردته القصيرة الطويلة، كان يحدثها وتحدثه، كانت توقظه إذا غفا على أخمصها، وإذا أخذته سنة من النوم.
رحل جرار كما رحل سابقوه في درب النضال والمقاومة، وهو يعلم أن طريقه الذي اختاره لا ينتهي عادة إلا بالنصر أو الشهادة، ولأن الغاية الأولى تبدو بعيدة بعض الشيء؛ كانت الثانية، عاش جرار بصمت ورحل بصخب.
ذهب جرار وبقيت سيرته على كل لسان، تسلل لقلوب الملايين، دون أن ينطق بأي كلمة، وبدون حملة علاقات عامة تكلف ملايين الدولارات، بضع رصاصات، و20 يومًا فقط كانت كفيلة برفع ذكره.
أحمد البيتاوي/صحفي و كاتب فلسطيني