ما لا تعرفه عن الحياة الجهادية و الثورية للإمام الخامنئي(القسم الأول)

الجمعة 2 فبراير 2018 - 19:02 بتوقيت غرينتش
ما لا تعرفه عن الحياة الجهادية و الثورية للإمام الخامنئي(القسم الأول)

نهضت الحوزة العلمية بقم وثار مركز العلم والتقوى والجهاد سنة (1962م) بنداء من إمام الأمّة قدس سره ضدّ الشاه.

قبل الثورة

لقد نهضت الحوزة العلمية بقم وثار مركز العلم والتقوى والجهاد سنة (1962م) بنداء من إمام الأمّة قدس سره ضدّ الشاه. فكان العلماء والطلبة يوصلون نداءات وتوجيهات الإمام وسائر المراجع إلى أقصى مناطق إيران بكلِّ إخلاص وشجاعة، وكانت إعلاناتهم تطبع وتوزّع بمساندة جميع القوى الشعبيَّة المؤمنة، وانتقلت هذه الثورة إلى سائر الحوزات العلميَّة والمجاميع الدينيَّة وأهمّها حوزة مشهد العظيمة والصامدة.

وكان لسماحة آية الله العظمى الخامنئيّ دام ظله دور بنّاء وعظيم في هذا المجال. فإلى جانب نشاطاته في قمّ. وثّق علاقاته بالعلماء والطلبة في مشهد، وسعى - مستعينًا بنشاط سائر علماء خراسان- في تجهيز طلبة العلوم الدينيّة بصورة أفضل، فكانت نشاطاته مؤثرة ومبهرة للعين؛ بحيث أنّه بُعث سنة (1963م) من قبل الإمام إلى مشهد لإيصال ثلاثة نداءات مصيريّة حول شهر محرّم الّذي وقعت فيه انتفاضة 15 خرداد، النداء الأوّل كان موجّهًا إلى العلماء والخطباء ورؤساء الهيئات الدينيّة حول التهجّم على إسرائيل وقضيَّة الفيضيَّة، والنداءان الثاني والثالث كانا إلى المرحوم آية الله العظمى الميلاني رحمه الله وأحد علماء مشهد حول بدء الكفاح العلنيّ في السابع من محرّم.

وقد تمّ إنجاز هذه المسؤوليّة بالصورة المطلوبة، وأدّت هذه النداءات الثلاثة إلى تقوية الجهاد في محافظة خراسان.

وكان سماحته أثناء سفره ينقل إلى أبناء الشعب - في المدن الّتي يمرُّ بها في طريقه ومن على المنبر- جوانب من هذه النداءات، فإستطاع بعمله هذا نثر بذور الثورة في كلِّ مكان، ثمّ قرّر سماحته مع جمع من زملائه الملتزمين السفر إلى مختلف مدن المحافظة والبدء من اليوم السابع من محرّم تلك السنة -حسب البرنامج الّذي أعدّه الإمام- بشرح القضايا الراهنة والأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة وفاجعة الفيضيَّة والخطط السرّيَّة للنظام؛ لأنَّ الأرضيَّة كانت مهيّئة لثورة جماهيريَّة ضدّ نظام الطاغوت، وذلك بعد قضيَّة مجالس المدن والمحافظات وقضايا الاستفتاء الشعبيّ المزوّر للنظام ومحاربته للإسلام والعلماء وارتكابه فاجعة المدرسة الفيضيَّة وكذا الحداد العام في نوروز سنة (1963م).

استفاد الإمام الراحل والعلماء من محرّم تلك السنة على أفضل صورة، ووضعت البرامج لتبيين الأمور بشكل مجمل من الأوّل إلى السادس من محرّم، ثمّ البدء في اليوم السابع ببيان المطالب الرئيسيَّة والحقائق بكل صراحة للشعب ليكشف عن وجه الشاه من تحت غطاء الاصلاحات.

وكان نصيب سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله مدينة بيرجند الّتي كانت مركز قوّة للنظام وكانت تدعى إقطاعة أسد الله علم (رئيس الوزراء آنذاك).

ارتقى آية الله العظمى الخامنئيّ دام ظله المنبر في بيرجند من اليوم الثالث من المحرّم، وأشعل فتيل الثورة وذلك ببيان القضيَّة لأبناء الشعب. وفي السابع من المحرم. حيث شارك جمع غفير في المجلس - بدأ ببيان مثير وجذّاب لفاجعة الفيضيَّة، فبكى الناس كثيرًا. وفي صباح التاسع من محرّم، ارتقى سماحته المنبر وألقى خطابًا حماسيًّا أقلق السلطات بشدّة حيث أسرعت إلى إعتقاله.

استمرت فترة الاعتقال هذه عشرة أيام. بعد إطلاق سراحه، اجتمع بزملائه من جديد ليتمّ تقييم الأحداث والنشاطات السابقة، فقرّروا أن يذهبوا إلى مختلف مدن البلاد مرّة أخرى لفضح جرائم النظام وتوسيع رقعة الثورة. ففي مثل هذه الأوضاع، كانت صرخة العلماء هي الصرخة الوحيدة الّتي تدعو أبناء الشعب إلى المقاومة والجهاد.

اتّسعت هذه التحرّكات لتشمل أكثر المدن وبعض القرى بصورة أرعبت النظام، ولهذا كانت ردّة فعل النظام بالمقابل عنيفة جدًّا.

وبدأ سماحة آية الله العظمى وزملاؤه نشاطهم وتحركّهم، يقول سماحته حول هذه القضية: "عندما تحرّكنا من قمّ في باص كنَّا ثلاثين طالبًا للعلم. وكانت مستويات الطلبة الجالسين في الباص متفاوتة، فكانوا ينزلون من الباص الواحد تلو الآخر في الطريق، وكنت آخر من يجب عليه النزول في كرمان".
وفي كرمان شرع سماحته بإلقاء الخطب والاجتماع بالعلماء والطلبة والمجاهدين والتباحث معهم لمدّة ثلاثة أيّام، ثمّ توجّه بالسيّارة إلى زاهدان. وهناك ارتقى المنبر في المسجد الجامع، فلقي استقبالًا حارًّا من الناس.
وفي السادس من بهمن بدت خطاباته أكثر صراحة، إلى أن بلغ اليوم الخامس عشر من شهر رمضان، ذكرى مولد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فألقى كلمة قويّة ومثيرة بحيث لم يرَ السافاك بُدًّا من اعتقاله ليلة السادس عشرمن شهر رمضان ونقله بالطائرة إلى طهران، فأحتجز ليلة في معسكر "سلطنت آباد"، ثم سُلّم في اليوم التالي لسجن "قزل قلعة" المشهور حيث يمارس فيه أبشع أنواع التعذيب. فقضى شهرين بين سجن انفراديّ وإهانات شديدة وتهديد بالقتل والتعذيب البشع وسائر المصاعب. ومع ذلك، كان أوّل عمل أقدم عليه هذا العالم المجاهد الشجاع بعد إطلاق سراحه هو الذهاب لمقابلة الإمام قدس سره في منزله الواقع في منطقة "القيطريّة" والذي كان في الحقيقة سجنًا محترمًا، وأفلح في مقابلة الإمام قدس سره برفقة الشهيد السيّد مصطفى الخميني، وبقي ساعة بمحضر الإمام قدس سره، وعلى حدّ قوله:
"لقد أذهب الإمام قدس سره التعب عن جسمي. وبكيت من شدّة شوقي لرؤية الإمام، فلاطفني الإمام كثيرًا، وقلت لسماحته: لم نستفد من شهر رمضان بالصورة المطلوبة نظرًا لغيابك، لذا يجب علينا التفكير في محرّم القادم من الآن".

تشكيل خلايا سريّة:

عقد سماحة الإمام الخمينيّ قدس سره مع عدد من العلماء المجاهدين السائرين على خطّ الإمام قدس سره كآية الله المشكيني، وآية الله القدّوسي، والمرحوم آية الله ربّاني الأملشي، والمرحوم آية الله رباني الشيرازي، والشيخ الهاشمي الرفسنجاني، وآية الله مصباح اليزدي، وآية الله الآذري القمي وآية الله أميني النجف آبادي وغيرهم، جلسة في قمّ ناقشوا خلالها قضية تشكيل خلايا سرّيّة منظّمة. وكان الهدف منها أن تكون مقدّمة لوضع الخطط وتنظيم نشاطات الحوزة العلميّة بقمّ وكذا للسير على نهج الإمام قدس سره، فبدأت هذه الخلايا بمباشرة عملها في سرِّيّة تامَّة بعد أن وضع ميثاقها وشروط عضويتها، وانتُخب آية الله مصباح اليزدي سكرتيرًا للجلسات، فكان عليه كتابة محضر الجلسات وكذا الميثاق وسائر المطالب بخط يشبه كتابة الأدعية في الكتب القديمة، بحيث لا يمكن لأحد غيره قراءتها، ولو وقعت في أيدي السافاك تصوّروا أنّها من الأدعية والطلاسم القديمة.

ولكن سنة (1965م) كشفت هذه الخلايا، وذلك بعد اعتقال آية الله الآذري القمّي لسبب آخر، فعثر السافاك على الميثاق في منزله، وتمّ تعذيبه، واعتُقل بعضهم وفرّ الآخرون ومنهم آية الله العظمى الخامنئيّ والشيخ الهاشمي الرفسنجاني وآية الله مصباح إلى طهران، واختفى الإمام الخامنئيّ عن عيون السافاك لمدّة سنة تقريبًا، حيث بقي مع الشيخ الهاشمي في منزل واحد.

وكان دام ظله قد فرّ من مشهد من قبل؛ بسبب ترجمته لكتاب (المستقبل لهذا الدين). وذلك لما تضمّنه هذا الكتاب وبالخصوص المقدّمة والحواشي التي أقلقت السافاك وأغضبته كثيرًا، فصودر الكتاب واعتقل اثنان من مسؤولي المطبعة. لكنَّ الكتاب طُبع ووزّع عن طريق آخر ممّا جعل السافاك يغضب أكثر، ويصرّ على مطاردة سماحته واعتقاله خصوصًا بعد كشف خلايا التنظيم في قمّ.

وفي أواخر عام 1966م خفَّت حدّة القضيّة بإطلاق سراح عدد من المعتقلين، ولهذا سافر سماحته إلى مشهد للزيارة، وطبيعي أنَّ السفر لم ينحصر في الزيارة فقط بل كان عليه القيام بوظائف أخرى، لذا عندما علم السافاك بمعاودته النشاط من جديد اعتقله في أوائل عام 1967م مرّة أخرى بذريعة كتاب (المستقبل لهذا الدين)، لكنَّه وبتأييد من الله - تمكّن من خداع السافاك والصمود أمام الضغوط والتعذيب، ولم يتمكّن السافاك من الحصول على أيّة معلومات منه.

لجنة العلماء للإغاثة
مكث الإمام آية الله العظمى الخامنئيّ دام ظله - بعد إطلاق سراحه- هذه المرّة في مشهد بدلًا من الذهاب إلى قمّ أو طهران وانشغل بالتدريس والنشاطات العلميّة، فوضع درسًا لتفسير القرآن الكريم خاصًّا بطلبة العلوم الدينيّة ثم درسًا آخر للجامعيين والشباب، قام خلالهما بتبليغ وتعليم الإسلام الثوريّ، فتحوّل درسه إلى قاعدة للجهاد والنشاطات الثوريّة ومركز للارتباط بالثوريّين ومقرّ لتوعية وإيقاظ الشعب. وكان في الوقت نفسه ستارًا لمعرفة الملتزمين الثوريين والارتباط بهم ومحورًا للتحرّكات الشعبيَّة والإسلاميَّة.

ففي الزلزال المدمّر الّذي وقع في منطقة فردوس وكاخك وكناباد،والذي ترك وراءه خسائر بشريّة ومادّيّة فادحة، جمع ونظّم سماحته ومجموعة من طلبة العلوم الدينية الثوريين بمشهد، وبعد دعم معنوي من علماء مشهد ودعم ماديّ وخدماتي من التجّار الثوريّين والملتزمين، توجّه بهم إلى فردوس، وشكّل لجنة علمائيَّة للإغاثة.

يقول سماحته حول هذا الموضوع:

"رأيت أنّه يجب تربية جمع من الطلبة يؤمنون بالجهاد من أعماق قلوبهم ويبذلون كلَّ ما في وسعهم في هذا الطريق، لهذا بدأنا العمل ووضعنا برنامجًا مع الطلبة. وعندما وقع الزلزال، فاغتنمنا هذه الفرصة. انطلاقًا من تفكيرنا هذا. واتّصلنا ببعض الأخوة وعرضنا عليهم قصدنا في الذهاب إلى فردوس، فحظِيت هذه الخطوة بتأييد بعضهم، فاجتمعنا في سبعين إلى ثمانين رجلًا بمن فيهم الشيخ الطبسي والشهيد نجاد وجمع من طلبة العلوم الدينيّة وأهل البازار، وتحرّكنا في خمسة عشر إلى عشرين سيارة باتجاه منطقة الزلزال. وعندما شاهدنا آية الله الحاج الشيخ علي مرواريد، الّذي كان قد حضر إلى المنطقة مع جمع من الناس، وشاهد كيف أنّنا رتّبنا الأوضاع بهذه الصورة هناك، أخذته العَبرة من ذلك..."

وفي الأيّام الأولى أي بين عشرة إلى خمسة عشر يومًا من تواجدنا هناك، اشتبه الناس بين اسمي واسم الإمام الخمينيّ، فكانوا ينادون بأنَّ الإمام الخمينيّ قدس سره جاء إلى هنا، وبدأت تتوافد مجموعات من القرى والمناطق البعيدة لرؤية السيّد الخمينيّ. وتبيّن لنا هناك أنَّ السيّد الخمينيّ هو للجميع، ولسنا الوحيدين الّذين نحبّه، وكان اسم الخمينيّ اسمًا محبوبًا لدى الجميع في قرى تلك المنطقة بل حتّى في القرى النائية. ولكن في نهاية الأمر عرفني الناس من أنا.
لقد كان شيئًا جميلًا بحيث أربك النظام. وكانت وحدة من قوّات الدرك مستقرّة هناك، حاولت إخراجنا من المنطقة بالقوّة. هددّونا وقالوا: إن لم تذهبوا، فسوف نخرجكم بالقوة من هنا، قلنا: إنَّنا لن نذهب، أيّها الزملاء لا تهابوهم، وقلت: يجب علينا أن لا نخاف لأنَّه لا معنى للخوف، ووضعنا على هذا الحال، وذلك لأنّنا جئنا هنا لمساعدة الناس، وإنَّ جميع إمكانات الناس في تصرّفنا، والنظام البهلويّ لا يملك شيئًا، ولو ملك شيئًا لما أعطاه الناس. وبالفعل لم تتمكّن قوّات الطاغوت من المقاومة، ورجعوا من حيث أتوا، وواصلنا عملنا".

هذه النشاطات في مجال العلم والتدريس والجهاد وخدمة الناس كلّها جعلت من سماحة آية الله العظمى الخامنئيّ محورًا للجهاد في مشهد بالتدريج. يُتّصل به من جميع مناطق إيران، وهو بدوره كان على ارتباط بسائر المناطق. لذا كان السافاك يُبدي حساسيّة شديدة تجاهه، فعُطّل درسه في التفسير عدّة مرات. لكنَّ سماحته كان يشرع في مكان آخر. وبشكل آخر، ممّا يضطرّ السافاك من جديد من منعه مرّة أخرى.

لذا ذاع صيته في الفضل والكمال والشجاعة في أقصى مناطق إيران، وكثُرت عليه الدعوات من أكثر المدن في إيران كأصفهان وكرمان يزد وغيرهما، إلى جانب طهران لإلقاء الخطابات والمحاضرات في مجالس اهلها، فما كان من سماحته إلاّ أن استفاد من هذه الفرصة لتبيين أفكار الإسلام الثوريّة وبيان الحقائق وقضايا الساعة ولزوم الجهاد والثورة.

وما زالت محاضراته في الجمعيّات الإسلاميّة ولدى الطلبة الجامعييِّن والهيئات الدينيِّة النشطة، كهيئة أنصار الحسين عليه السلام بطهران باقية في الأذهان، ومن جملتها محاضرات شهر رمضان بمدرسة الشيخ عبد الحسين في بازار طهران عام 1969م تحت عنوان "شروط وأركان الثورة".
وكان الرأي السائد آنذاك، هو أنَّ تشديد الجهاد المسلّح مفيد وذو تأثير كبير. وكان يطلق على جهاد العلماء حتّى تلك الفترة عنوان (نهضة العلماء). دون ذكر مصطلح الثورة. لكنَّ سماحة آية الله العظمى الخامنئيّ دام ظله تحدّث هذه المحاضرات في عشرين يومًا ونيِّفً عن الثورة بكلّ صراحة.
ولم تكن المحاضرات وحدها مؤثرة، بل كان للكتب الّتي ترجمها أو ألّفها سماحته الأثر الكبير في إحياء الروح الأفكار الثوريّة،فكان لكتب (صلح الإمام الحسن عليه السلام، المستقبل لهذا الدين ودور المسلمين في نهضة الهند) وما شابهها الدور الكبير في تربية الشباب وإعدادهم للثورة.
وكان سماحته قد اعتقل عام 1967م في قمّ بسبب هذه الكتب، لكن أطلق سراحه في اليوم نفسه، بعد أن عجز السافاك من الحصول على أيّ مستمسك ضدّه.

الاعتقال من جديد:
عام 1970م بدأ سماحته الترويج لخطِّ الإمام ومرجعيَّته وإعلان الوفاء لقائد الثورة الإسلاميّة، وذلك بعد أن رأى الأجواء مناسبة لذلك، فاعتُقل مرّة أخرى، وكان لهذا الاعتقال صدًى واسعًا في أوساط طلبة العلوم الدينيّة بمشهد وتأثيرًا في الحوزة، ممّا ساعد على تنمية وترسيخ الأفكار الثوريّة وترسيخ الأفكار الثوريّة في نفوس الطلاب، لأنَّ الأعوام ما بين (1968 - 1971م) كانت أعوام البناء الثقافيّ الثوريّ السلميّ. وكان المجاهدون في هذه الأعوام يتعرّفون على الإسلام الثوريّ، وطبيعيّ أن يزداد التفاف الناس (خصوصًا الشباب) حول العلماء المجاهدين. فاستغل العلماء بدورهم هذه الفرصة المتاحة لهم عارضين العلوم والمعارف الإسلاميّة الأصيلة عليهم سواء بالتبليغ على المنابر أو بالدروس الخاصّة أو بجلسات البحث والنقاش الحرّ، أو بنشر الكتب والكرّاسات الضروريّة. ويطلق سماحة آية الله العظمى الخامنئيّ على هذه الفترة اسم (أعوام النشاطات السرّيّة).

وكان سماحته منهمكًا بتربية الكوادر وتنظيم العناصر الموثوقة والارتباط بالجماعات النشطة والمجاهدة، ولتسهيل هذا العمل، قبل التدريس وإمامة الجماعة أيضًا.
فشرع بتدريس التفسير في مسجد (صدّيقيها) المعروف بمسجد الأتراك الواقع في بازار مشهد، واضطرّ بعد فترة إلى نقل الدرس إلى مدرسة ميرزا جعفر نظرًا لكثرة الحضور وضيق المسجد، وكان يشارك في درس التفسير طلبة العلوم الدينيّة وجمع من المؤمنين والمطّلعين على المسائل الدينيّة في مشهد. ولكنَّ الدرس قد توقَّف مؤقتًا إثر اعتقاله عام (1970م). واستمرّت فترة الاعتقال هذه المرة أربعة أشهر وعدّة أيّام.
عاود سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله نشاطه بعد إطلاق سراحه مرّة أخرى، فمن جملة نشاطاته هي إلقاء محاضرات في ليلتي التاسع والعاشر من محرّم في الجمعيّة الإسلاميّة للمهندسين بطهران حول حديث (من رأى سلطانًا جائرًا...)، فكانت لهذه المحاضرات الثوريّة والحماسيّة آثارها على نفوس الناس. إثر ذلك اتّصلت به الجماعات السرّيّة ومنها منظمة (مجاهدو الشعب).

أمّا حول ارتباطه بهذه الجماعات المسلّحة، ففي عام 1971م وبعد الانفجار الّذي وقع في أعمدة الكهرباء أثناء الاحتفالات بمرور 2500 عامًا على النظام الملكيّ، أُعتقل سماحته وعُرّض لأشدِّ أنواع التعذيب، وسجن في زنزانة مظلمة رطبة، لكن رغم كلّ التعذيب الذي تعرض له إلاّ أن السافاك واجه مقاومة بطوليّة وأسطوريّة من هذا العالم الشجاع الأبيِّ، ولم يتمكّن من الحصول على شيئ منه، فاضطر إلى إطلاق سراحه بعد خمسين يومًا ونيفًا من احتجازه.
وعاود نشاطه هذه المرّة أيضًا وأُضيف مسجد الإمام الحسن (ع) والّذي كان آنذاك مسجدًا صغيرًا إلى قواعد الثورة،حيث بدأ سماحته بإلحاح جمع من الزملاء بتدريس تفسير القرآن وإقامة الجماعة هناك. وبهذا العمل جمع سماحته بين العمل السريِّ والمحدود، والعمل العلنيّ والمباشر مع الجماهير عن طرق المسجد.

وبعد فترة طُلب من سماحته أن يؤمّ الجماعة في مسجد (كرامت) بالقرب من حديقة نادري بمشهد والّذي يعتبر من النقاط المزدحمة والحسّاسة في المدينة. ونظرًا إلى كثرة الحضور والازدحام الجماهيريّ الكبير، فقد عُطّل المسجد من قبل السافاك فترة من الزمن.

وقد أثارت هذه النشاطات إعجاب الكثيرين، وبالخصوص الشهيدين المطهريّ وباهنر، حيث أبديا -في سفرهما إلى مشهد- فرحتهما وتقديرهما لهذه البرامج.
وكان المرحوم الشهيد آية الله الطالقاني يصرّح ويقول: إنَّ السيّد الخامنئيّ هو أمل المستقبل، فعندما تذهبون إلى مشهد، فاذهبوا للقائه حتمًا.
وهذه النشاطات جعلت السافاك تضعه تحت الرقابة الخاصّة. فإمّا أن يتمَّ إحضاره للتحقيق، أو يُحَاصر منزله ويمنع الناس من التردّد عليه، أو تعطّل دروسه بالقوّة واحدًا تلو الآخر، إلى أن أُعتقل عام 1973م ونُقل إلى طهران .

حبس في سجون السافاك المخيفة أي في لجنة مكافحة التخريب، واستمرّت هذه الفترة من السجن حدود شهرين، قضاها بين الزنزانات الانفراديّة أو المكوّنة من اثنين أو ثلاثة مع التعذيب الشديد.

 

ويقول الشهيد رجائي حول هذا الموضوع: في تلك السنة الّتي قضيتها في قبضة لجنة مكافحة التخريب عام 1974م.والّتي كانت جهنَّم حقيقيّة.كان يسمع في هذه اللجنة الصياح والأنين من الصباح إلى الليل وبالعكس. فكانت مصداقًا للآية ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾. فالذين كانوا هناك لم يكونوا أمواتًا ولا أحياءً، لأنَّهم كانوا يضربون حتّى الموت، ثمّ يداوون بعض الشيئ حتّى تتحسّن صحّتهم تقريبًا، ثمّ يُعيدونهم إلى التعذيب مرّة أخرى. وكانوا يُعذّبون الأشخاص في لجنة مكافحة التخريب بشتّى أنواع التعذيب.
كنت في الزنزانة رقم "18"، وكان السيّد الخامنئيّ في الزنزانة رقم "20"، وكنّا نتبادل الأخبار بطريقة خاصّة تعلّمناها في السجن تشبه طريقة إرسال الأخبار بواسطة الشيفرة. فكنت أعطي الأخبار لنزيل الزنزانة المجاورة (رقم 19)، فيعطيها بدوره للسيّد الخامنئيّ وهكذا. وأتذكّر جيّدًا أنَّ الجلاّدين قد حلقوا لحية السيّد عليّ الخامنئيّ عنوةً وصفعوه على وجهه لكسر شوكته ولكنَّه كان مقاومًا وصامدًا، يضع قميصه على رأسه بشكل عمامة، ويظهر بذلك المظهر أمام الآخرين. لقد قابلته ذات مرّة في المرافق الصحّيّة وهو فرح ومسرور".

وعلى الرغم من كلِّ الضغوط والتعذيب، إلّا أنَّ جهاز السافاك الرهيب لم يستطع معرفة أسرار تلميذ الإمام قدس سره ولم يتمكّن من الحصول على أيِّ دليل ولو صغير ضدّه، لإتمام ملف المحاكمة وإصدار الحكم ضدّه. لذا وبعد تغيّر سياسة أسيادهم الأميركان ووصول جيمي كارتر إلى سدّة الحكم عام (1975م)، اضطرّ السافاك إلى إطلاق سراحه. فعاد إلى مشهد وإستمر في جهاده المرير ضد نظام الشاه وأجهزته.

وكانت المسؤوليّات في هذه المرّة أكبر من السابق، فقد فشل تمامًا الكفاح المسلّح بالأسلوب الّذي تبنّته منظّمة (مجاهدو الشعب)، رغم تحذير الإمام عام (1970م) لمبعوث هذه المنظمة إليه، ووقعت إنشقاقات في هذه المنظمة وظهرت الأفكار الانحرافيّة والالتقاطيّة.

وقد أخذ الغرور والعنهجيّة النظام إثر توجيهه ضربات إلى الفدائيّين والشيوعيّين، وأصبحت أكثر القوى المجاهدة في حيرة من أمرها وأخذها الشعور بالشكّ وعدم الثقة بالجماعات الجهاديّة، وأصيب آخرون باليأس والخمول،

انفصلت القوى الجهاديَّة عن عناصر منظّمة (مجاهدو الشعب) في السجن، فأصبحت وظيفة قادة الجهاد في هذه الأجواء المليئة بالإرهاب والرعب والخيانة والالتقاط واليأس والخمول والشكّ والحيرة، صعبة وحسّاسة جدًّا.

فوجب توعية الجماهير بمجريات الأحداث بالصورة الّتي لا يستغلّها النظام لصالحه، وإرشاد الناس وتشجيعهم، كانا أمرين عظيمين يتطلّبان الكثير من المهارة والحذاقة، وقد تمّ بفضل الله والقيادة الحكيمة للإمام العزيز قدس سره ووعي ودقّة أصحاب الإمام ومن جملتهم سماحة آية الله العظمى السيّد الخامنئيّ، إدارة هذه البرهة الحسّاسة على أحسن وجه ممكن، أي أنَّه تمّ من جهة تنظيم وانتخاب القوى الإسلاميّة الأصيلة، كما تمّ إعداد قوة أقوى بكثير من قبل لمواصلة الجهاد ضدّ الشاه،وذلك بعد أن تمَّ نبذ الأفكار الالتقاطيّة، ومن جهة أخرى، تمّ بيان الهدف الرئيسيّ من الجهاد للمجاهدين وهو إسقاط النظام دون أيّة مواجهة مع (مجاهدو الشعب)، وبدلًا من صرف قواهم لمواجهة هذه العناصر، صرفت في مواجهة العدوّ الرئيسيّ أي نظام الشاه، ومن جهة ثالثة، تمَّ بيان الأفكار الانحرافيّة والالتقاطيّة للمنظّمة بكلّ مهارة ودقّة دون أن يستغلّها النظام لصالحه. وعندما أفاق النظام من غفلته، كان كلُّ شيء قد انتهى، وبلغ الجهاد ذروته في العامين (77- 1978م). وببلوغ الكفاح ذروته وفضح انحرافات منظمة (مجاهدو الشعب) وشعور العلماء وكذا الشعب بلزوم إيجاد خلايا إسلاميّة منظّمة يترأّسها العلماء والمتضلّعين في الفقه والسياسة بدلًا من الأفراد العادييِّن أو السياسييِّن فقط، تمّ إيجاد النواة الأولى لخلايا إسلاميَّة منظَّمة بقيادة الإمام وإشراف العلماء الثورييِّن في مشهد.

يقول سماحته حول هذه القضيّة: "عقدنا جلسة في عام 1977م مع اثنين من الإخوة وهما المرحوم آية الله ربّاني الأملشي والشيخ الموحدي الكرماني.دار الحديث فيها حول أسباب عدم وجود خلايا منظّمة للمجاهدين خصوصًا بين صفوف العلماء، الّذين كانوا يشكلّون النسبة العليا من المجاهدين. فاقترح إيجاد خلايا منظمة، وقد قيل في تلك الجلسة أنه لو كان السيّد البهشتي معنا في الخلايا، كانت النتائج أفضل".

ومن حسن الصدفة أنّ الشهيد بهشتي والشهيد باهنر كانا بمشهد في تلك الفترة. ولهذا عُقدت جلسة بمشاركتهما، ووضع الحجر الأساس لرابطة العلماء المجاهدين في البلاد. وتعتبر الركائز الأولى للحزب الجمهوريّ الإسلاميّ.

وبُعث خبر هذه الرابطة إلى العلماء في السجون ومن جملتهم الشيخ هاشمي رفسنجاني. وبدورهم أيّد العلماء هذه الفكرة. وعاد الشهيد المطهّري في تلك السنة من النجف حاملًا معه رسالة من الإمام قدس سره يدعو المجاهدين من ذوي السوابق الجهاديّة إلى الاجتماع. وقد أدّت هذه الارتباطات والاتّصالات إلى تنظيم وخروج المسيرات المليونيّة عامي (77 - 1978)، وكان دور سماحة آية الله العظمى الخامنئيّ في تشكيل هذه الرابطة ملفتًا للنظر. يذكر أنَّ السافاك لم يسمح لسماحته بالخروج من البلاد لمدّة عشر سنوات من عام 1965م.

المصدر: khamenei.ir