الشيخ إدريس العكراوي
من القيم الأخلاقيّة التي أكّد عليها الإسلام كثيراً (صِلَةُ الرحِم)، قال تعالى: {اتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، ولمّا سئل الإمام الصادق (ع) عن هذه الآية، قال: "هي أرحام الناس، إنّ الله (عزّ وجلّ) أمر بصلتها وعظّمها، ألا ترى أنَّه جعلها منه"؟!
وقال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى}، ولاشكّ أنّ الوالدين هم أقرب رحماً للإنسان من غيرهما، ثمّ تأتي قرابته وعشيرته، الأقرب فالأقرب... وهكذا.
وكما أكّد القرآن على صلة الرحم كذلك فعلت الأحاديث الشريفة المرويّة عن الرسول (ص) وأهل بيته المعصومين (ع)، فقد ورد عن الرسول (ص) أنّه قال: "أُوصي الشاهد من أمّتي، والغائب منهم، ومَن في أصلاب الرجال، وأرحام النساء إلى يوم القيامة: أن يصل الرحم وإن كانت منه على مسيرة سنة، فإنّ ذلك من الدين"، وعن أبي عبدالله (ع) أنّه قال: "أوّل ناطق من الجوارح يوم القيامة الرحم، تقول: يا رب مَن وصلني في الدنيا فصِل اليوم ما بينك وبينه، ومَن قطعني في الدنيا فاقطع اليوم ما بينك وبينه"، وفي جملة من الأحاديث ورد هذا المعنى: "إنّ الرحم معلَّقة يوم القيامة بالعرش تقول: اللّهم صِل مَن وصلني، واقطع مَن قطعني".
ولذا يسرع الإسلام إلى التوصية الكافية بالأرحام بصورة عامّة من ناحيتين:
إيجابية: فيلزم أن يتواصوا، ويتبارّوا، ويتراحموا ويتفقّد بعضهم بعضاً.
وسلبيّة: فيحرّم القطيعه بشتى أشكالها، ويوجب غسل القلوب عن ضغائن ربما تستشري بينهم فلا تدع ولا تذر.
آثار صِلة الرحم
لاشكّ أنّ كلّ إنسان يرجو لنفسه الخير والصلاح والحياة السعيدة الهانئة بعيداً عن المكدّرات والمنغّصات وما يجلب الهمّ والبلاء، وقد ذكرت الروايات آثاراً عظيمة لـ (صلة الرحم)، هذه الآثار ينبغي على المؤمن أن يسعى لتحصيلها من خلال صلته لأرحامه ولو كانت صلته لهم تستوجب منه مسير سنة كاملة، يقول رسول الله (ص): "سِرْ سنةً صِل رحمك"، وقال (ص): "أوصي الشاهد من أمّتي والغائب منهم ومَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة: أن يصل الرَّحم وإن كان منه على مسيرة سنة، فإنّ ذلك من الدين"، ومن هذه الآثار:
- طول العمر:
ولاشك أنّ هذه النعمة من أهمّ النعم التي يرجوها الإنسان لنفسه، فالإنسان بطبعه يفرّ من الموت ويهرب من أسبابه، وليس من الموت مفرّ ولا من أسبابه مهرب، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}، وقال تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة}، وبالتالي غاية ما يطلبه الإنسان ويرجوه في هذه الحياة أن يطول عمره في خير وعافية، وصلة الأرحام تُنسئ في الأجل وتزيد في العمر، فقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم (ص) أنّه قال: "إنّ المرء لَيَصِلُ رحمه وما بقي من عمره إلاّ ثلاثة أيّام فَيُنْسِئُه الله ثلاثين سنة، وإنّ الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاثين سنة فيُصَيِّرُه الله إلى ثلاثة أيّام"، وقال الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه واسمه مُيَسّر: "يا مُيسّر، قد حَضَر أجلك غير مرَّة، كلّ ذلك يؤخِّرُك الله بصِلتك رحمك، وبِرِّك قرابتك"، والسبب هو أنّ ميسّر لما كان غلاماً كان أجيراً بخمسة دراهم، وكان ينفق دراهمه على خاله.
- تنفي الفقر، وتنمّي المال، وتزيد في الرزق:
والإنسان عادة ما يفرّ من الفقر لما يستوجبه من الهوان والذلّ، ويسعى لتحصيل المال والغنى ليعيش بكرامة روح وعزّة نفس، وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنّ صلة الرحم:
تنفي الفقر: يقول رسول الله (ص):"صِلةُ الرحم تزيد في العمر، وتنفي الفقر".
وتنمّي المال وتكثّره: يقول الإمام الباقر (ع):"صلة الأرحام تزكّي الأعمال وتنمّي الأموال".
وتوسّع في رزق الإنسان: يقول (ص):"مَن سَرَّه أن يُبسط له في رزقه... فليصل رحمه"، ويقول الإمام الحسين (ع):"مَن سرَّه أن يُنسأ في أجله، ويُزاد في رزقه فليصل رحمه"، والمقصود بالرزق الأعمّ من المال وغيره، والأعمّ من المادّي والمعنوي.
- تُحَسِّن الأخلاق وتُسَمِّح الكفّ وتُطيّب النفس وتزكّي الأعمال:
يقول الإمام الباقر (ع): "صِلة الأرحام تُحسِّن الأخلاق وتُسّمِّحُ الكفّ وتُطيّب النفس"، ويقول (ع):"صلة الرحم تزكّي الأعمال"؛ باعتبار أنّ صِلة الرحم توثّق العلاقة بين الأرحام وتقوّيها، والأخلاق عادة ما تسمو وتتكامل بين مَن تكون علاقتهم وثيقة، فـ (بين الأحباب تسمو الآداب) ويسقط التكلّف، وهذا من شأنه أن يعرّف الرحم بحاجات رحمه وآلامه، بل ويجعل الرحم يتحسّس آلام رحمه ويستشعر حاجته فتتراخى كفّه وينفق من ماله فيكون سمحاً سخيّاً على رحمه، ولاشكّ أنّ هذا يطيّب النفوس على بعضها ويقتلع ما علق فيها من أدران وشوائب، وإذا طابت النفوس زكت الأعمال ونمت وكانت مباركة.
- تدفع البَلوَى:
و(البَلوَى)و(البِلوَة)و(البِلْيَة) و (البَلِيَّة) و(البلاء) كلّها بمعنى واحد، والمراد بها الامتحان والاختبار، وهو سنّة إلهيّة وقانون سماوي لا يكاد ينجو منه أحد حتى الأنبياء والأوصياء(ع) بل هم أولى بالبلاء من غيرهم؛ لأنّه "إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه"، وهم أحبّ الخلق إلى الله تعالى، ولهذا ورد أنّ:"أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الذين يلونهم ثمّ الأَمْثَل فالأَمْثَل"، والغاية من البلاء إمّا ليُعرَف الصادق من الكاذب ويَمِيز الخبيث من الطيّب، قال تعالى :{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (*) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، وقال تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب}، وإمّا لإيقاظ الإنسان من سباته وتنبيهه من غفلته، يقول أمير المؤمنين (ع):"إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك البلاء فقد أيقظك"، وإمّا لتطهير المؤمن من رواسب المعاصي وشوائب الذنوب، وما اختلط في نفسه من ثقافات الانحراف، يقول أمير المؤمنين (ع):"لا تفرح بالغَناء والرخاء، ولا تغتمَّ بالفقر والبلاء، فإنّ الذهب يُجرَّب بالنار والمؤمن يُجرَّب بالبلاء"، وإمّا ليزيد في الحسنات ويرفع الدرجات، يقول الإمام الكاظم (ع):"مَثَلُ المؤمن مثَلُ كِفَّتي الميزان، كلّما زِيد في إيمانه زِيد في بلائه، ليلقى الله (عزَّ وجلَّ) ولا خطيئة له".
إذن (البلاء) في مجمله خير، وبالتالي كان ينبغي أن تكون صلة الرحم ممّا تزيد في بلاء الإنسان باعتباره خير له، فلماذا نجد الإمام الباقر (ع) يقول:"صِلة الأرحام تُزَكِّي الأعمال وتنمِّي الأموال و (تدفع البَلوى) ؟" كيف تدفع البَلوى عنه وهي خيرٌ له؟
ربما يكون المقصود به هو أنّ الإنسان بطبعه لا يحبّ البلاء ولا يطيقه ولا يريد أن يُبتلى بشيء؛ لأنّ البلاءَ ألمٌ يلحق ذاته - إمّا فيها كالمرض والفقر وما شابه ذلك وإمّا فيما يرتبط بها كالأولاد والأموال وما شاكل ذلك - والإنسان عادةً لا يطيق أن يصيب ذاته ألم؛ لفرط حبّه لذاته، ولذلك تراه دائماً وأبداً يطلب العفو والعافية لذاته ولما يرتبط بها ليجنّبها السوء والألم؛ ولأنّ نتيجة البلاء مجهولة لديه، فهو إمّا أن يُكرم في هذا البلاء وإمّا أن يُهان، فـ (عند الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان)، والإنسان بطبعه يكره القدوم على مجهول، فيكون معنى أنّ صلة الرحم تدفع البلاء هو أنّ صِلة الرحم تدفع عنه ألم البلاء ووحشته بحيث لا تضيّع عليه نتائجه وثماره، حيث يبارك الله تعالى له في ذاته وعمره وصحّته ورزقه ويمدّه بالخير ويدفع عنه السوء، وكلّ هذا من البلاء.
وقد يكون المعنى أنّ الله تعالى يدفع عنه البلاء الذي يفوق طاقته ويسلب قدرته، أو يكون المقصود بالبلاء هو المصيبة الفادحة التي يكره الإنسان الوقوع فيها، وقد يكون المقصود بالبلاء في قوله: (وتدفع البلاء) بلاء الشرّ، فالبلاء بلاءان: بلاءٌ في الخير وبلاء في الشرّ، قال تعالى :{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وقد يكون البلاء بالشرّ هو الأصل في البلاء وإليه ينصرف الذهن عند سماع هذه الكلمة، فيكون المعنى أنّ صلة الرحم تدفع هذا النوع من البلاء لا كلّ بلاء.. والله أعلم.
تعصم من الذنوب:
فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنَّ صلة الرحم والبِرّ ليُهَوِّنان الحساب ويعصمان من الذنوب"، وهذا يعني أنّها تولّد التقوى في نفس صاحبها بحيث يتجنّب المعاصي ويُعصم من الذنوب، وهي مُنى المؤمن؛ لأنّ مصيره الأخروي متوقّف على هذه الذنوب قلّة وكثرة، والعاقل هو مَن يسعى للخلاص من ذنوبه في الوقت الذي يكثِّر فيه حسناته.
- تعمر الديار:
لاشكّ أنّ الديار التي تنمو فيها صلة الرحم وتزداد يوماً بعد يوم بحيث تطول أعمار أهلها، وينتفي عنهم الفقر، وتزداد أموالهم، ويُوسّع عليهم في أرزاقهم، بحيث تطيب نفوسهم فتزكو أعمالهم وتسمح كفوفهم وهم مع ذلك معصومون من الذنوب مأمونون من البلوى هي ديار عامرة، فعمران الديار من عمران أهلها، وما دامت النفوس عامرة إذن الديار عامرة، وعمرانها في سموّ وتكامل كما أنّ أهلها في سموّ وتكامل، يقول رسول الله (ص):"صِلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخيار"، فكيف إذا كانوا أخياراً بررة، يقول رسول الله (ص):"إنّ القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمي أموالهم وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة".
- تقي من ميتة السوء:
كلّ إنسان يسير نحو الموت، والموت نهاية محتومة لابدّ وأن ينتهي إليها كلّ إنسان، ولكنّ الموت ليس واحداً بالنسبة للجميع، فواحد يكون الموت بالنسبة له كشربة ماء بارد في يوم صائف، وواحد يكون الموت بالنسبة له عذاب لو قُسِّم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم كما في الحديث الشريف، ولاشكّ أنّ كلّ إنسان يرجو أن يكون من أصحاب القسم الأوّل، ولهذا يرجو كلّ واحد أن تكون ميتته حسنة بل أحسن، وقد ورد عن الرسول الأعظم (ص) بأنّ صلة الرحم تقي من ميتة السوء.
- تهوِّن سكرات الموت:
وسكرة الموت هي شدّته، وسمّيت سكرة لأنّها تسلب عقل الإنسان، يقول رسول الله (ص):"والذي نفسي بيده، لمعاينة ملك الموت أشدُّ من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبدٍ من الدنيا حتى يتألّم كلُّ عرقٍ منه على حِيالِه"، ويقول: "أدنى جَبَذات الموت بمنزلة مائة ضربة بالسيف"، ويقول أمير المؤمنين (ع):"فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين مَن مات منكم لجزعتم ووَهِلتُم، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يُطرح الحجاب"، وصلة الرحم تخفّف سكرة الموت وتهوِّنها، فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "مَن أحبَّ أن يُخفِّف الله (عزَّ وجلَّ) عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وَصُولاً وبوالديه باراً، فإذا كان كذلك هَوَّن الله (عزَّ وجلَّ) عليه سكرات الموت ولم يُصبه في حياته فقرٌ أبداً"، وقال الإمام الهادي (ع):"لمَّا كلَّم الله (عزَّ وجلَّ) موسى بن عمران (ع) قال موسى: إلهي، ما جزاء مَن وصَل رحمه؟ قال: يا موسى، أُنسي له أجله وأهوِّن عليه سكرات الموت".
- تخفِّف الحساب وتهوِّنه:
وهو غاية ما يرجوه، فالمؤمن يرجو أن يخفّف الله حسابه، بأن يجازفه في الحساب مجازفة ولا يناقشه مناقشة، ثمّ يعفو ويصفح بحيث تكون النهاية سعيدة بالخلود في جنّة الرضوان، وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّ صلة الرحم تهوِّن الحساب.
المصدر:موقع الكاتب