غير أن هذه الأهمية الاستراتيجية لم تحرّك شهيّة الولايات المتحدة التي كادت طائراتها في أكثر من مناسبة أن تنخرط في مواجهة مع الطائرات الروسية في الشرق السوري الغني بالنفط ، بذريعة تجاوز خط منع التصادُم المُتّفق عليه بين الطرفين.
إقرأ أيضاً: اعتقال "وزير صحة داعش" عراقي الجنسية .. فمن هو ؟!
وما يثير الريبة أكثر، أن واشنطن اتّخذت من "مذكرة خفْض التصعيد في جنوب غرب سوريا" التي توصّلت إليها منتصف العام الماضي، باتفاق ثلاثي مع كل من عمان وموسكو ، منصّةً للتصويب على التواجد الإيراني والمطالبة الحثيثة " بإخراج القوات الأجنبية الموالية لايران" من المنطقة، متجاهلةً جيب "داعش" في حوض اليرموك الذي ظلّ آمناً ومستقراً رغم أنه غير مشمول بالمذكرة التي تستثني من أحكامها جميع التنظيمات الإرهابية. هذا التغاضي الأميركي لم يفضِ إلى بقاء جيب "داعش" في الجنوب السوري وحسب، بل أتاح للتنظيم زيادة قوّته في المنطقة، واتخاذه من منطقة حوض اليرموك معقلاً أساسياً يستخدمه في أمرين أساسيين: الأول تأمين ملاذ للمئات من قادته وعناصره الهاربين من مناطق عراقية وسورية فقد التنظيم السيطرة عليها إثر المعارك ضده. والثاني اتخاذ هذه المنطقة كنقطة انطلاق للهجوم على المناطق المجاورة في محاولة لتوسيع "إمارته" الجنوبية.
وقد وجّهت موسكو في أيلول/سبتمبر الماضي اتهاماً مباشراً إلى "قاعدة التنف" الأميركية بأنها سهّلت انتقال 600 مُقاتلاً من "داعش" العراق باتجاه منطقة خفْض التصعيد في جنوب غرب سوريا. وفي ما يشبه التأكيد على صحّة هذه الاتهامات، تحدّث تقرير استخباري إسرائيلي في الفترة ذاتها عن وصول المئات من مُقاتلي التنظيم إلى حوض اليرموك قادمين من مدينة الموصل العراقية، وذكر التقرير الذي نشره موقع ديبكا المختصّ بالشؤون الأمنية والاستخبارية، أن هؤلاء المُقاتلين كانوا بقيادة أبي همّام الجزراوي.
ويبدو أن هذه التعزيزات الجديدة هي التي أتاحت لـ "جيش خالد" وهو الإسم الذي يعمل به "داعش" في الجنوب السوري، أن يُخطّط مؤخراً للقيام بمعارك جديدة تستهدف السيطرة على "منطقة الفصل" في الجولان السوري المحتل. وقد قام "جيش خالد" بآخر محاولاته التوسّعية في العاشر من الشهر الجاري عبر هجوم على الحاجز الرباعي الذي يُعتبَر بوابة التنظيم للتوجّه شمالاً انطلاقاً من بلدة عين الذكر التي سيطر عليها العام الفائت. ورغم أن الهجوم أخفق، إلا أنه كان كافياً لتسليط الضوء من جديد على جيب "داعش" في تلك المنطقة الشديدة الحساسية.
واللافت أن نشاط "داعش" المُستَجد في جنوب سوريا، جاء بعد أسابيع قليلة فقط من الهزيمة التي مُنيَ بها تنظيم "جبهة النصرة" في بيت جن ومحيطها، حيث تمكّن الجيش السوري وحلفاؤه من السيطرة على كامل الحدود السورية – اللبنانية، وإجهاض مشروع "الشريط الآمن" الذي طالما راهنت عليه إسرائيل وقدّمت في سبيله دعماً مباشراً لـ "النصرة" في هجومها الأخير على بلدة حضر.
وليس خافياً أن ثمة جناحاً داخل "جيش خالد" يتعاون مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بل إن هذا التعاون كان أحد الاتهامات التي وجّهها تنظيم "داعش" نفسه إلى أبي عبيدة القحطاني القائد السابق للجيش عقب اعتقاله بتهمة اغتيال بعض قادة التنظيم في حوض اليرموك.
ولا يمكن التكهّن بحجم هذا التعاون بين الطرفين، ولكن مما لا شك فيه أن الأحداث التي مرّ بها "جيش خالد" تشي بمدى الاختراق الأمني والاستخباري الذي يعاني منه. وأكثر ما يدلّ على هذا الاختراق هو الاستهداف المُتكرّر لأمراء "الجيش" من قِبَل طائرات إسرائيلية وأخرى بقيت مجهولة ، فقد إثرها "الجيش" ثلاثة من أمرائه العامّين خلال أقل من شهرين في الفترة بين آب وأيلول من العام الماضي، قبل أن يستقر في هذا المنصب المدعو نادر ذياب المعروف بلقب "أبو علي الأسير". وثمة احتمال لا يمكن التغاضي عنه وهو أن هذه الاغتيالات المُتكرّرة كانت تستهدف تعويم الجناح المتعاون مع الكيان الإسرائيلي وضمان وصول أحد قادته إلى رأس هرم التنظيم في المنطقة. وربما هذا ما يُفسّر توقّف الاستهدافات بعد ذلك.
ويمكن حصر الغاية الإسرائيلية من وراء هذا التعاطي الاستخباري مع تنظيم "داعش" بأمرين قد لا يكون ثالث لهما: الأول هو اتخاذ مناطق "داعش" بمثابة "منطقة عزل" تمنع- بحسب الأدبيات الإسرائيلية- القوات الموالية لإيران من الاقتراب من حدود كيانها، مُطمئّنة في ذلك إلى أن "داعش" لم يستهدفها. ويتمثّل الأمر الثاني برغبة إسرائيلية في اتخاذ انتشار "داعش" على الخط الفاصل ذريعة لتدخّل عسكري مباشر في سوريا عندما تتطلّب الحاجة مثل هذا التدخّل. وقد تكون الخطوة الإسرائيلية المُتمثّلة بتشكيل قوّة عسكرية لمواجهة خطر "داعش" القادم من سيناء في مصر، مجرّد نموذج لما يمكن أن تفكّر بالقيام به في سوريا، في حال وجدت أن حماية مصالحها أصبحت تتطلّب القيام بالمهمة بنفسها وليس عبر وكلائها وأدواتها.
*عبد الله سليمان علي - الميادين