الأستاذ أحمد حسن الزيات
الناظر في تاريخ الاديان السماوية و الارضـية لا يـجد ديـنا حملته لغته التي نزل بها أو كتب فيها الى أقصى الشرق و أقصى الغرب في مدى 1400 سنة ثـم بقيت محافظة على قوتها وجدتها و وحدتها و طبيعتها الا دين الاسلام و لغة العرب.أما سـائر الاديان فلا تقرأ كـتبها الاصـلية الا في لغة البلد الذي ظهرت فيه،فاذا نقلت الى بلد آخر عن طريق الدعوة قرئت مترجمة الى لغته،و أختص بمعرفة الأصل طائفة قليلة من رجال ذلك الدين،فمدونة الاسفار البوذية المسماة بالسلات الثلاث،لا يقرأها أتـباع هذه الملة في الصين و اليابان الا منقولة الى الصينية و اليابانية.و التوراة و الانجيل،و هما كتابان منزلان لا يقرآن في العالم المسيحي الا في لغة كل قطر من أقطاره.لذلك ظل تأثيرها في الآداب الاخرى ضئيلا حتى ترجما الى اللاتـينية و التـوتونية القديمة فظهر أثرهما قويا في الآداب الاوروبية.
و ليس كذلك الحال في القرآن،فان المسلمين اعتقدوا-بحق-أن لغته جزء من حقيقة الاسلام لا ينفصل عنها و لا تنفصل عنه،لأنها كانت ترجمانا لوحي اللّه و لغته لكـتابه و مـعجزة لرسوله و لسانا لدعوته.ثم هذبها النبي الكريم بحديثه و نشرها الدين بانتشاره و خلدها القرآن بخلوده.
فالقرآن لا يسمى قرآنا الا فيها،و الصلاة لا تكون صلاة الا بها. لذلك سارعوا الى التكلم بها و التأليف فيها و التعصب لهـا و الدفـاع عنها، حتى حلت محل الفارسية في العراق و الرومية في الشام و القبطية في مصر و البربرية في المغرب،و أصبحت في عصر بني العباس-و هو عصرها الذهبي-لغة الدين و العلم و الادب و السياسة و الادارة و الحـضارة فـي أكـثر الدنيا القديمة،و أصبح المسلم عـلى اخـتلاف جـنسه ينتقل من قطر الى قطر في العالم الاسلامي،كما ينتقل من بلد الى بلد في وطنه الاصلي،لا يجد مشقة في التفاهم و لا صعوبة فـي التـعامل و لا شـدة في المعيشة.
ثم شغل المسلمون عربهم و عجمهم بـالقرآن و فـرغوا له،فكان دعاؤهم في المسجد و نظامهم في البيت و منهاجهم في العمل و دستورهم في الحكم، فسرى هديه منهم مسرى الروح،و جرى وحـيه فـيهم مـجرى الطبع،و أثر في ألسنتهم و أفئدتهم و أنظمتهم تأثيرا لم يؤثره كتاب سـماوي آخر في أهله..
و من هنا كانت ثقافة الاسلام قائمة على ركنين أساسيين هما الدين بعلومه المختلفة،و اللغة بـفنونها المـعروفة.و هـذان الركنان يشد أحدهما الآخر و يمسكه.فالاسلام بغير العربية يبهم و يضمحل،و العـربية بـغير الاسلام تنكمش و تزول،فلما و هي النظام الجامع و انفرط العقد المتسق و اختلف اللسان المتفق،ذهب المسلمون أبـاديد لا يـنظمهم سـلك و لا تؤلف بينهم وحدة.ثم هب العرب فنهضوا،و عاد الاسلام فانبعث،و كان الاسـتعمار قـد تـوقح و فجر،فنشأت العصبيات الوطنية في الممالك الاسلامية لدره خطره،أو تخفيف ضرره،و كان من ذلك أن تحررت البـلاد العـربية و إسـتقلت الامم الاسلامية،و تعاطف أتباع محمد،على البعد،تعاطف الاخوة في الغربة و تذكروا أن ديـنهم هـو التوحيد فسعوا الى الاتحاد،و لكن إتحادهم على أي صورة من صوره لا يتم الا بالسر الذي أودعـه الله جـوهر الاسـلام و هو التحاب في ذاته و التعاون في سبيله و التفاهم على حقه،و ملاك ذلك كله اللغة العـربية.
و اللغـة في ذاتها رابطة وثيقة،فلولا رباط الانجليزية بين أمم (الكومنولث)لما استطاع أن يـربط بـينها التـاج،و لو لا رباط العبرية بين شذاذ اليهود لما استطاع أن يجمع بينهم الدين.و إن الرجل الشرقي المسلم يتعلم الانـجليزية أو الفـرنسية فيكون هوه و رأيه مع أهل هذه اللغة أو تلك. و لعله يألف الالماني اذا ان يـعرف الالمـانية أكـثر مما يألف التركي اذا كان يجهل التركية.ليس من المبالغة أن نقول إن اللغة أقوى الصلات الاجتماعية فـي التـأليف بـين الانسان و الانسان،هي أقوى في ذلك من الدين و الوطنية، فما يكون بين المـسلم و القـبطي من التآلف باتحاد اللغة لا يكون مثله بين الباكستاني و الايراني باتحاد العقيدة،و لا بين العربي و الكردي بإتحاد الوطـن.
و السـبيل القصد الى تحقيق الجامعة المحمدية العظمي،أو اعادة الدولة الاسلامية الكبري هي أن تكون اللغة العـربية لغـة عامة لباكستان و الصين و أندونيسيا و تركيا و ايران و أفـغانستان،و تـفرض هـذه الدول تعليمها في مدارسها الابتدائية و الثانوية بجانب لغـاتها الاصـلية،لتكون اللغة التي تحمل كلمة الله و روح محمد و سر الاسلام لغة لهم.
و أن المسلمين كلما اسـتمروا فـي بلد أو اجتمعوا في مكان رأوا أنـهم مـتحدون في القـبلة و الوجـهة و الغـاية و لا يختلفون الا في اللغة.و أن كرامتهم الدوليـة لم تـعد تسمح لهم بأن يتفاهموا فيما بينهم بلغتي الاستعمار الانجليزية و الفرنسية.و لعل تـشجيع انـتشار التعليم باللغة العربية،يسد هذا النـقص و يرفع هذا الحاجز،لتـتصل الأفـهام،و تمتزج الارواح،و يشعر أبناء الامـة الوسـط أنهم بوحدتهم و قوتهم و عزتهم و عقيدتهم،خير أمة أخرجت للناس.
المصدر: مجلة منبر الإسلام