"ما تعيشه البلاد لا يطاق بالنسبة إلى غالبية التونسيين، خاصة أن أهداف الثورة لم تتحقق بعد، لاسيما في المجال الاقتصادي المزري". المدونة والناشطة لينا بن مهني تعبر عن رأيها في وضع تونس وتركز على الكلمات لتحديد الداء، فتضيف، مستاءة ومسلحة بخبرة نضال مستمر منذ عقد من الزمن: "نلمس عند الشباب غضبا شديدا...".
"غضب شديد من وضع البلاد المتشنج سياسيا، المزري اقتصاديا. وإحباط من وعود طبقة سياسية كاذبة وسلطة متهمة بمحاولة الالتفاف على مسار الثورة". فلا تدري لينا (32 عاما) إذا كانت الاحتجاجات التي هزت مختلف المناطق والجهات ليل 8 و9 يناير/كانون الثاني بعد إقرار قانون مالية "يزيد الفقراء فقرا"، ستتحول إلى "ثورة جديدة".
ولكن المؤكد، كما تقول هذه المرأة المتفائلة بمستقبل تونس، أن التظاهر سيستمر ما دامت الحملات الشبابية مستنفرة، وما دامت التعبئة والاحتجاج غير محصورتين في العاصمة.
السلطة.. والسلطة المضادة
فغداة المظاهرات الشعبية التي شهدتها البلاد الأحد الماضي في الذكرى السابعة لسقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، عقدت مجموعة مصغرة لحركة "فاش نستناو" (ماذا ننتظر) اجتماعا مغلقا في العاصمة بهدف تحديد المراحل المقبلة من حملتها ضد قانون المالية الذي تسبب في ارتفاع أسعار المواد الأساسية وغلاء المعيشة.
وكشفت هندة الشناوي وهي إحدى عناصر "فاش نستناو" ذات التنظيم الأفقي الذي لا يقبل زعيما ولا آمرا، أن الحملة تسعى لتنظيم مظاهرة السبت 20 يناير/كانون الثاني في شارع الحبيب بورقيبة للتأكيد على رفضها لقانون المالية 2018. وبعد نقاش وتبادل الآراء بين المجموعة، تم الاتفاق على إرجاء المظاهرة ليوم الثلاثاء المقبل، وذلك لأن أبواب البرلمان مغلقة السبت.
وإذا سألت هندة ما إذا كان الشباب جاهزا للتظاهر مجددا، أجابتك ضاحكة أن حركتها تشكل سلطة مضادة، ربما هي الوحيدة، في تونس، "لأننا لا نجري وراء طموحات سياسية ولا أي مناصب، ولا نطالب بإسقاط هذه الحكومة أو تلك، ولا ندعو لانتخابات مسبقة". ما يهم "فاش نستناو" وغيرها من الحملتات الشبابية مثل "مانيش مسامح" (لا أسامح) هو "تحقيق أهداف الثورة".
وكانت العاصمة التونسية ظهر الثلاثاء غارقة في هدوء حذر يفسره التواجد الكثير لقوات الأمن عندما تعالى في سمائها الصافية ضجيج متظاهرين مسالمين رافعين شعار "الكرامة"، مطالبين بحقهم في الشغل. الأساتذة الناجحون في مناظرة "كاباس" عادوا بمعاطفهم البيضاء إلى شارع الحبيب بورقيبة ليذكروا الحكومة بوعودها، والسلطة بواجباتها، والشعب بحقوقه.
واقفون بين تمثال بورقيبة ونصب ابن خلدون
ولم يكن هناك من يسمع هتافاتهم سوى رجال الأمن الموزعين في قلب المدينة، واقفين بين تمثال أول رئيس للجمهورية التونسية (بورقيبة) ونصب عالم الاجتماع الكبير ابن خلدون، الشاهدين على تتجدد المظاهرات في أرجاءها، وكأن البلاد في كل لحظة ولفتة على موعد مع مصيرها.
فالحقيقة أن تونس في مفترق الطرق، بين سندان التعهدات الدولية لاسيما تجاه صندوق النقد الدولي، ومطرقة الضغط الشعبي المستمر جراء تدهور حالته الاجتماعية. فإن سألت سائق التاكسي محمد علي (27 عاما)، والد أميرة صغيرة في الثانية من عمرها، عن أسعار المواد الاستهلاكية، رد عليك ضاحكا ساخرا غاضبا: "حدث ولاحرج".
وعلى الرغم من تطمينات حكومة يوسف الشاهد عبر التزامها بعدم رفع أسعار المواد المدعمة مثل الخبز والزيت والسكر، وعلى الرغم من تعهدات الرئيس الباجي قائد السبسي (91 عاما) بأن يكون 2018 عام الشباب، إلا أن محمد لا يصدق. فيعلق صاخبا: "ماذا يغيرون، وبماذا سيغيرون؟ بالكلام الفارغ والوعود الكاذبة!؟". مضيفا: "أنظر حولك وتأمل.. أنظر إلى حال الناس وحال تونس.. طرقات تعج بمتسول وفقير.. منازل فيها قفف فارغة".
من السيئ إلى الأسوأ
هل تسير البلاد نحو المجهول؟ لا أحد يعلم. ولكن المؤكد أن الأمور مالت من السيئ إلى الأسوأ، ولا حل في الأفق، سوى الوعود المهدئة كما يسميها مدير المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية علاء طالبي. الباحث في التاريخ يعرف الحركات الإجتماعية كما يعرف الطبيب (حال) مريضه.
وقال طالبي متحدثا إلينا في مكتبه بشارع فرحات حشاد في وسط العاصمة تونس إن السلطة والحكومة تعاطت مع المظاهرات الأخيرة ضد قانون المالية بالقمع الأمني، مشيرا إلى وقوع إيقافات عشوائية ضمن شباب غالبتهم تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاما، وكثير منهم انقطعوا عن الدراسة منذ وقت طويل. ومن المقرر أن تبدأ محاكمة الموقوفين، الذين بلغ عددهم 850 شخصا حسب أرقام وزارة الداخلية، الخميس.
"جيل الحرية والكرامة الذي يعرف حقوقه"
الحملات الشبايبة التي تعيشها تونس "أعادت الثقة إلى الحركة الاجتماعية الشعبية"، بحسب الباحث في التاريخ. وأثارت الانتباه بأن هناك "جيلا جديدا من الشباب ما زال يؤمن بأن هناك مسارا ثوريا يجب أن يكتمل".
شباب ثوري، أو كما توضح لينا بن مهني التي التقيناها بمقر جمعيتها "دستورنا" الحقوقية، "جيل الحرية والكرامة الذي يعرف حقوقه" ويقول "لا" في حال الضرورة. جيل كان في سن 11 أو 12 عاما عندما رحل بن علي عن السلطة في 2011، وترعرع في طبقات اجتماعية متباينة، من فئة الطلاب والعاطلين والناشطين الجمعويين والمناضلين السياسيين، وضم صوته إلى حملات "مانيش مسامح" و"فانش نستناو" أو "حاسبهم" [الموجهة ضد تجاوزات عناصر الأمن] للدفاع عن مبادىء وأهداف الثورة.
وتقصد لينا بالشباب، المناضلين والناشطين، سواء الذين شاركوا في الثورة أو من جاؤوا بعدها. وتحدثت أيضا عن فئة أخرى من الشباب، فضلت خيار "الجهاد" أو "المغامرة في المتوسط" لأجل الحياة أو.. الموت. وبحسب علاء طالبي نقلا عن جهات رسمية، فإن 6151 تونسيا تمكنوا من بلوغ الأراضي الإيطالية في 2017.
"الجيل السياسي الحالي سينتهي، إما فكريا أو بيولوجيا"
الموت.. والحياة. عنوان رواية أحداثها حقيقية. وأخذ منها الشباب التونسي الثائر المناضل الشطر الثاني، الحياة، لينضوي تحت راية حملة "فاش نستناو" وقبلها تحت راية "مانيش مسامح" التي تأسست في 2015 معارضة لقانون المصالحة المالية.
وهذه الحملات الشبابية منحت للشاب التونسي فرصة أن يكون ناطقا باسمه الشخصي، كما يؤكد الناشط من "مانيش مسامح" سليم بن توفيق، "فلاقى أذنا صاغية لدى وسائل الإعلام وحتى لدى الحكومة". ويضيف الشاب البالغ 27 عاما قائلا إن الجيل السياسي الحالي سينتهي، إما فكريا أو بيولوجيا".
وبانتظار زوال الجيل القديم، يشعر الشباب التونسي كما تشرح لينا بن مهني بأن "حريته مهددة، والدليل العدد الكبير من الاعتقالات في صفوف ناشطين أو محتجين أو مدونين أو فنانين". أما الشباب الحاصل على شهادة، فغالبا ما ينضم لعداد العاطلين، "ما يخلق لديه إحباطا شديدا لأن الحياة لم تتغير بالنسبة إليه، وهو واع بأنه لم يجن ثمار ثورته على زين العابدين بن علي".
"لا شيء تغير سوى الحق في التعبير"
وتضيف بن مهني، التي كانت أستاذة اللغة بجامعة علم الإنسان في تونس لغاية 2015 قبل تسريحها عن العمل بسبب نشاطها وانتقادها لسياسة الحكومة، "لا شيء تغير سوى الحق في التعبير، وهذا ما يفسر الغضب الذي يجتاح البلاد". وتابعت: "الحكومة لا تقدم لا حلا ولا بديلا"، لتخلص إلى القول بأن "لا أمل للشباب التونسي".
فشباب تونس، بين الأمل والإحباط، بين الموت والحياة. مرآة المجتمع التونسي، كما تقول هندة شناوي. شباب يرغب في حقه بتقرير مصيره بنفسه. فهل سينجح؟
المصدر: فرانس 24