بلاسم الشمري
باتت ظاهرة " الحجاب " مما يؤرق صناع القرار الفكري والثقافي وحتى المجتمعين في الغرب ومنه أوروبا على وجه التحديد، خصوصا وهم يحاولون جاهدين في هدم مبانيه ـــ الحجاب ـــ الفكرية والثقافية، قبل ان تندس بين ثنايا أفكار نسوتهم، وقد تنوعت حيال ذلك الذائقة الغربية الى ثلاث توجّهات هي:
1- الضد، وهو توجه يرفض فكرة الحجاب بشكل مطلق، ويقود أصحاب هذا التوجه فرنسا.
2- الحياد القاسي، وهو موقف قاس من بعض الدول ومنها أمريكا، وقسوة هذا الحياد قائم على إعتباره 3- الحجاب ـــ مسألة خاصة، إلا أنها ستحرم صاحبتها من بعض الإمتيازات كالعمل في بعض الأماكن.
3- الحياد المرن، وهو توجه تقوده دول أوروبا الشمالية والدول الاسكندينافية، ومفاده بأن مسألة الحجاب مسألة شخصية تعود للمرأة وحريتها في إنتماءها وقناعاتها الشخصية ولا يمكن ان يكون ذلك عائقا لها في العمل فيما ترغب، مع انه شيئ غير محبب ولا مرغوب من قبل المجتمع.
وبغية تحليل ما يراه الغرب حيال ملفة الحجاب، لابد أن نعرف أن الحجاب ـــ حسب النظرة الغربية ـــ بات الوسم الذي تتسم به المرأة المسلمة حصرا، وكأن ليس من امرأة ـــ وإن كانت يهودية أو مسيحية متدينة ـــ يمكن أن ترتديه، خصوصا وأن مراكزهم البحثية ترى في إنتشاره علامة مهمة وملمح إستباقي لانتشار الإسلام في هذه الدول وربما ذكّرهم ذلك بأيام الأندلس مثلا والحروب الصليبية.
ومما جعلهم في قلق حيال ذلك هو قراءتهم للحجاب على أنه تغيير في المعادلة الحضارية الغربية وربما الصليبية حتى، ومن الوجهة الثقافية والفكرية والمجتمعية بل وحتى السياسية وصولا للاقتصادية منها، وأنه ـــ أي الحجاب ـــ عائق مهم قبالة ما تنشده هذه الدول بما يسمى بــ " الاندماج الحضاري " الذي هو بالأصل تضييع للخصوصيات وتذويب للأديان والثقافات المجتمعية خصوصا تلك التي تميز الدين الإسلامي عن غيره.
وثمة من يتساءل، لماذا هذه القراءة الغربية حيال الحجاب بالتحديد؟
والجواب يكمن في أن من يرى ـــ كمراكز الأبحاث المجتمعية ـــ ان أبناء النسوة غير المحجبات أسرع ذوبانا في المجتمعات الغربية من أبناء الملتزمات بالحجاب، وبالتالي فإن وراء الحجاب ما وراءه من ثقافة تسد على الأخر منافذ التبعية والذوبان في المجتمع الغربي وهذا هو خطره حسب إعتقادهم.
وللأمانة، فأن الحجاب ليس هو العائق الوحيد لتذويب أبناء الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية ـــ وإن كان هو الأبرز ـــ فهنالك المدارس الإسلامية والمساجد والجمعيات الفكرية والثقافية ذات الطابع الإسلامي، وما الحجاب إلا لأنه ـــ حسب الغرب ـــ منطقة رخوة يمكن الدخول منها لتفتيت وتذويب هذا الإنتماء بإعتباره الأكثر تمثيلا والأكثر علاقة بالطرف الضعيف ـــ ويقصدون المرأة المسلمة ـــ.
ما يهمنا في ذلك هو التيار المناهض للحجاب والذي تقوده فرنسا (وهي طليعة البلدان التي تنادي بالحرية في أوربا والدولة العلمانية الأبرز فيها وشعارها في ذلك حرية مساواة إخاء)!
وقبل الشروع في ذلك علينا أن نعرف حجم فرنسا وثقلها في أوروبا من جهة، وتمثليها التأريخ لها من جهة أخرى.
ففرنسا من أعرق البلدان الأوروبية ويعود تاريخها للقرون الوسطى ،كما أنها أقوى البلدان في أوروبا ورائدتها في العصور الحديثة صناعيا (عصر النهضة)، وفكريا وسياسيا (من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كما أنها من اوائل الدول المؤسسة للإتحاد الأوروبي وأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، والأهم في الدول الفرانكفونية ومجموعة الثمانية ومجموعة العشرين و حلف شمال الأطلسي ومنظمة التعاون والتنمية ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد اللاتيني)، عدا أنها الإمبراطورية الأقوى بعد بريطانيا في منتصف القرن الماضي، كما أنها أكبر دولة في أوروبا الغربية والاتحاد الأوروبي جغرافيا والثالثة سكانيا، ويقارب عدد المسلمين فيها الخمسة ملايين مسلم قبالة أكثر من 65,000,000 مليون فرنسي موزعين على تنوعات أثنية ودينية وعرقية متعددة. وبالتالي فإن المسلمين يمثلون فيها رقما مهما وأن حجاب النسوة المسلمات يمثل منظرا لافتا للانتباه لدى الناظر مما قد يضيع هويتها العلمانية خصوصا وأن السياحة فيها قائمة على الحريات التي هي أقرب للإنفلات ومنها سياحة الجنس ومتطلباته.
ورغم تنوع التوجهات حيال الحجاب الى ما سبق ذكره من توجهات ثلاثية، إلا انه بات مورد قلق لجميعها بإعتبار أن لهم جميعا قراءة واحدة مفادها بأن الحجاب مؤشر فعلي على حالة تنامي الإسلام في فرنسا، وهذا بحد ذاته إشارة لفشل مشاريع الدمج المجتمعي التي رسمتها الجمهوريات في فرنسا على تعاقب أجيالها، بخصوص منع السماح لطغيان لون إثني أو ديني على آخر مهما كان؛ بما في ذلك المسيحية نفسها.
عدا أن المظهر الأجلى للإسلام ـــ على الأقل من النظرة الأولى ـــ هو الحجاب، وأن تناميه يجعل منه ظاهرة وبالتالي قوة فكرية ضاغطة يمكن أن تجعل غير المسلم في تساؤل مع نفسه حول الإسلام، وهو ما يمكن أن يجذبه اليه، وهذا ما يجعل الآلة الإعلامية الغربية ومنها فرنسا ـــ بالتزامن مع احداث نيس وسان دوني وباتكلان وشارلي إبدو وغيرها ـــ تخلق ترابطية نمطية لدى الجمهور الغربي عن العلاقة بين الإسلام والإرهاب بل وحصره بقدر المستطاع.
بقي أن نشير الى أن الحجاب هو الأخر لم يعد مجرد إلتزام شرعي، أو قطعة قماش توضع على الرأس امتثالا لأمر سماوي، إنما صارت ملمح تحد وإثبات لمنظومة فكرية، عدا أنه بات محفزا للمرأة المسلمة من إثبات ذاتها على أصعدة اخرى بالتزامن مع ما يميزها فيه.
كما أن النظرة الدونية التي ُترمق من خلالها المرأة المسلمة بحجابها، ساعد على ولادة مقاومة فكرية وحصانة علمية لها كمانع من هذه النظرة، كإضطرار للدفاع عن معتقدها بالحجاب، وبالتالي الى طرح قناعاتها التي اثنت الكثير من الفرنسيات عن إنتماءهن، لصالح الإسلام طبعا.
ومع ولادة جيل من النساء المحجبات ممن ولدن في فرنسا، بات مؤشر قلق المراكز البحثية هذه وتوصياتها بالدمج المجتمعي مثار قلق وتهاوي لأن هؤلاء النسوة سيمتلكن قوة أكبر في إدارة أفكار الأخريات غير المحجبات، وأنهن ـــ بحكم ولادتهن في فرنسا ــ أقدر على إيصال هذا التغير الى قريناتهن، عدا أنه مؤشر خطير على فشل مشاريع الدمج التي عكفت فرنسا لسنوات طويلة في تطبيقها.
المصدر:العتبة الحسينية المقدسة