الشيخ محمد صنقور
الحقيقة أننا لم أجد من علمائنا المحدثين منهم والمؤرخين وعلماء الجرح والتعديل من ذكره بهذا الوصف ، وكذلك لم أجد في علماء السنة ومؤرخيهم من ذكره بهذا الوصف إلا البلاذري في أنساب الأشراف قال : " وكان زهير بن القين البجلي بمكة - وكان عثمانيا - فانصرف من مكة متعجلا فضمه الطريق وحسينا " ج3 ص 167 .
وكذلك ذكره بهذا الوصف إبن الأثير في كتابه الكامل في التأريخ ، قال : "وكان زهير بن القين البجلي قد حج ، وكان عثمانيا فلما عاد جمعهما الطريق" ج4 ص 42 .
ولم يذكره من المؤرخين بهذا الوصف غيرهما كما لم أجد له ذكرا في كتبهم الرجالية ، وعلى ذلك لا يمكن التثبت من صحة نسبة هذا الوصف لزهير بن القين( رحمه الله)خصوصا وأنهما لم يسندا دعواهما إلى مستند بل إنهما أرسلا هذه الدعوى إرسالا .
والذي يعزز إمتناع الوثوق بصحة هذه الدعوى أن أحدا غيرهما ممن أرخ منهم لنهضة الحسين(ع) لم يذكره بهذا الوصف رغم أن الكثير منهم قد تعرض لذات الخبر الذي نقله البلاذري وابن الأثير .
نعم أورد الطبري خبرا أسنده إلى أبي مخنف عن الحارث بن حصيرة عن عبد الله بن شريك العامري ورد فيه أن عزرة بن قيس الأحمسي من معسكر يزيد قال لزهير بن القين يوم التاسع من المحرم بعدما نصحه وقال له: فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين،أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية، فقال عزرة : يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنما كنت عثمانيا "فقال له زهير : أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم ، أما والله ما كتبت إليه كتابا قط ، ولا أرسلت إليه رسولا قط ، ولا وعدته نصرتي قط ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله(ص) ومكانه منه وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله(ص) " ج4 ص 319 .
فلعل هذا الخبر هو مستند البلاذري وابن الأثير فيما ادعياه من أن زهيرا كان عثمانيا ، فلو كان هذا هو مستندهما فيما ادعياه فإنه لا يصلح لإثبات صحة هذه الدعوى لأنه خبر واحد قاقد لشرائط الصحة وليس متحفا بقرائن توجب الوثوق بصدقه، ولهذا وذاك يكون ساقطا عن الإعتبار .
ثم إن مضمون الخبر لم يشتمل اقرار من زهير بصحة ما نسبه إليه عزرة بن قيس البجلي، فلم يكن ما ذكره سوى تهمة من فاسق لم يقابلها زهير بالإقرار وإنما قال له : " أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم" ومعنى ذلك ان موقفي هذا مع الحسين(ع)ألا يصلح أن يكون دليلا لك على أني منهم أي من شيعة أهل هذا البيت، ثم إن زهيرا عرض بعزرة بن قيس فقال: " أما والله ما كتبت إليه كتابا قط ، ولا أرسلت إليه رسولا قط ، ولا وعدته نصرتي قط .." فإن في ذلك تعريضا بعزرة بن قيس حيث أنه كان ممن كتب إلى الحسين(ع) يستحثه على المجيئ إلى الكوفة ويزعم أنه من أنصاره ، ولذلك حين طلب منه عمر بن سعد في كربلاء أن يذهب للحسين (ع) فيسأله مالذي جاء به وماذا يريد اعتذر لعمر بن سعد لأنه استحى أن يأتي الحسين وهو كان ممن كتب إليه . ج4 ص 310 . فكان في جواب زهير لعزرة والذي هو بجلي مثله تعريض بكذبه ونكثه لوعده وخيانته .
هذا هو المستظهر من جواب زهير لعزرة فهو لم يقره على دعواه ، واحتمال أن يكون مراده من قوله : "أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم" هو انه ألا يصلح أن يكون موقفي هذا مع الحسين بعد أن كنت عثمانيا واعظا لك ودليلا على أن الأمر قد بلغ حدا لا يسوغ معه التعصب للمذهب لأن القوم عازمون على سفك دم سبط الرسول(ع) والعثمانية التي تزعم أني كنت عليها لا تسوغ الإغضاء عن هذه الموبقة العظيمة ، فوجدت أن ديني يقتضي نصرته لأن الأمر قد تجاوز حد الإختلاف في المذهب .
هذا الإحتمال وإن كان واردا لكنه خلاف الظاهر فهو لا يستقيم مع قوله"اني منهم" إذ لا مرجع له بناء على هذا الإحتمال ، ولو قبلنا بعدم ظهور كلامه في المعنى الأول فهو كذلك ليس ظاهرا في المعنى الثاني ، ولهذا فالفقرة الأولى من جواب زهير تكون مجملة فلا تصلح لأن يستدل بها على اقرار زهير بأنه كان عثمانيا ، بل حتى لو قبلنا بأن المعنى الثاني هو المراد من كلامه فإنه لا يصلح أيضا لإثبات أن زهيرا أقر بأنه كان عثمانيا ، إذ انه كان في مقام المجادلة للإقناع ، فكأنه أراد أن يقول إنه لوسلمت بما نسبته إلي من العثمانية أفلا يصلح ذلك واعظا لك ودليلا تستدل به على أن الأمر لم يعد يتحمل التعصب للمذهب ، إذ ما أقدم عليه القوم مخالف لدين الله تعالى عند كل المذاهب .
إذن فهذا الخبر لا يصلح لا من جهة السند ولا من جهة المضمون لإحراز أن زهيرا كان عثمانيا .
وثمة احتمال آخر لعله كان هو منشأ توصيف البلاذري لزهير بالعثماني وهو أن زهيرا (رحمه الله)-بحسب الخبر - كان يسير في ذات الطريق الذي يسير فيه الحسين(ع) من مكة إلى العراق وكان يتحاشا ما وسعه الإلتقاء بالحسين (ع) .
ولو كان ذلك هو ما دفع البلاذري لوصفه بالعثماني لما صح أن يكون مبررا كافيا لإحراز كونه عثمانيا إذ أن كراهة الإلتقاء بالحسين (ع) يمكن حملها على أكثر من وجه ، فقد يكون مشأ ذلك هو كونه عثمانيا كما ذكر البلاذري إلا أنه يمكن أن يكون منشأ ذلك هو أنه لم يكن يرى رأي الحسين (ع) في الخروج على بني أمية لعدم تكافؤ القوة بين الطرفين، وقد يكون منشأ ذلك هو الخوف والوهن الذي كان عليه أكثر أبناء الأمة آنذاك فهو يتحاشا الإلتقاء بالحسين (ع) حتى لا يتهم أو حتى لا يضطر حياء لمؤازته ، فكراهة زهير ومحاذرته من الإلتقاء بالحسين (ع) مفتوح الوجه فيه على أكثر من احتمال ، فإدعاء أن منشأ ذلك متعين ومنحصر في كونه عثمانيا تعسف بين ورجم بالغيب .
وثمة احتمال ثالث قد يكون هو منشأ وصف البلاذري زهيرا بأنه كان عثمانيا وهو أن زهيرا كان بجليا ، وقبيلة بجيلة كانت منحرفة عن أمير المؤمنين (ع) وقد اعتزل كثير منها أمير المؤمنين (ع) فلم يشاركوه في حربه على معاوية في صفين، وكان هوى كثير منهم مع عثمان، فقد يكون ذلك هو منشأ نسبة البلاذري زهيرا إلى العثمانية .
إلا ان ذلك لو كان هو منشأ نسبة زهير إلى العثمانية فإنه لا يصح ، فلم تكن قبيلة بجيلة على هوى واحد ، فهي من أكثر القبائل العربية عددا وبطونا وامتدادا في مختلف أقطار الجزيرة العربية ، فكانوا في اليمن والعراق والشام وهجر والحجاز وقرقيسياء وغيرها ، وكانت بطونها بل وأفرادها مختلفة في أهوائها منذ العهد الجاهلي وصدر الإسلام ، وظلت أهواؤها مختلفة بل ومتباينة في عهد أمير المؤمنين (ع) وفي العهدين الأموي والعباسي ، وكان فيهم القادة العسكريون والسياسيون والشعراء والمحدثون والعلماء ، وكان هؤلاء على مذاهب متباينة،فمنهم الخوارج، ومنهم الشيعة،ومنهم من كان هواه أمويا، ومنهم من كان من السنة المعتدلين، ومنهم النواصب ، وفيهم الأغمار والأوباش والوجهاء الذين يميلون حيث المعائش والمصالح ، ولم أجد أحدا نسب قبيلة بجيلة برمتها إلى العثمانية بل لم أجد من نسب بطنا من بطونها بكامله إلى العثمانية، ويمكن التوثق من ذلك من ملاحظة كتب التراجم وكتب الجرح والتعديل وكتب التواريخ.وأما بجيلة الذين شاركوا معاوية في حرب علي (ع) فلم يكونوا من بجيلة الكوفة بل كانوا من بجيلة الذين استوطنوا الشام منذ عهد الخلفاء .
وعلى كل تقدير فبجيلة لم تكن على هوى واحد فمذاهبها مختلفة بل ومتباينة ، ففيهم من كان من الخوارج كحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية وهو من رؤوس الخوارج في النهروان ، ومنهم من شارك في قتل الحسين (ع) كعزرة بن قيس الأحمسي البجلي ، وفيهم من استشهد مع الحسين (ع) كنافع بن هلال البجلي وسلمان بن مضارب بن قيس البجلي ، وفيهم من كان مع المختار حين قام بالثأر من قتلة الحسين (ع) مثل عبد الله بن شداد الجشمي البجلي وأحمر بن شميط البجلي وكان من قادة الثوار مع المختار، وفيهم من قتلهم المختار لمشاركتهم في قتل الحسين(ع) وفيهم من شارك في ثورة التوابين بل إن أحد أبرز قادتهم في معركة عين الوردة كان بجليا وهو رفاعة بن شداد البجلي ( رحمه الله) وكان قبل ذلك من خيار شيعة علي (ع) وكان من القراء شارك عليا(ع) في حروبه وكان على رأس بجيلة في صفين. وكذلك فإن قيس بن هبيرة بن مكشوح كان من قادة بجيلة في صفين مع علي (ع) وكان صحابيا وكان من قادة الفتوح ، وقد استشهد في صفين بعد أن أبلى بلاء حسنا وقطعت ساقه ، وأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي من بجيلة فقاتل حتى قتل ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس ، وقتل حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي حازم ، وقتل أبوه أيضا وكانت له صحبة ونعيم بن صهيب بن العيلة وكلهم من بجيلة كانوا في معسكر علي (ع) ( الكامل ج3 ص304 )
وعليه فلا يصح أن ننسب زهيرا أو غيره إلى العثمانية لمجرد كونه بجليا وأن مقتضى الموضوعية والأمانة العلمية هو التثبت من ذلك حسا إما بأن يصرح هو بذلك أو ينسبه الثقاة المعاصرون له إلى هذا الوصف ويصل الينا ذلك بطرق أو وسائل معتبرة لدى العقلاء أو تشهد مواقفه المحرز صدورها عنه على أنه كان واجدا لهذا الوصف ، ولم نجد رغم البحث والتتبع شيئا من ذلك يمكن الوثوق به بل لم نجد ما يبرر الظن بصحته .
وأما انه كان كارها للإلتقاء بالحسين (ع)رغم أنه كان يسايره في الطريق فكان لا ينازله إلى أن اضطره الطريق إلى النزول في المنزل الذي نزل فيه الحسين (ع) فضرب فسطاطه بعيدا عن فسطاط الحسين(ع) إلى أن بعث إليه الحسين (ع) يطلب الإلتقاء به؛ فهذا الخبر نقله الطبري وغيره عن أبي مخنف عن السدي عن رجل من فزارة في زمن الحجاج ولم يذكر اسمه فهو خبر تفرد بنقله هذا الفزاري المجهول ، ويقابل هذا الخبر ما نقله الطبري نفسه بسندين عن حصين بن عبد الرحمن قال : "إن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجا فأقبل معه " الطبري ج4 ص 295 . وكذلك ورد في البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص 184 . وفي الروض المعطار قال : ".. فلما سمع زهير بخروج الحسين بن علي رضي الله عنهما تلقاه فكان في جملته وقتل معه بكربلاء" فالتفصيل المذكور في خبر الفزاري لم يذكر في الخبر الآخر بل ورد فيه ما يعبر عن مبادرة زهير للإلتحاق بالحسين (ع).
ويؤكد ذلك جواب زهير لعزرة حيث قال له فيما قال -بحسب الخبر- : " ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله(ص) ومكانه منه وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله (ص) " فلم يكن في جوابه اشارة إلى أنه كان كارها للإلتقاء بالحسين(ع) ولعله لو كان كارها لذكر ذلك لأن ذكره أفلج لحجته ، فهو قد احتج بأنه لم يكن فيمن كاتب الحسين (ع) فيكون من المناسب أيضا أن يعزز حجته بأنه كان كارها الإلتقاء بالحسين لكنه لم يذكر ذلك وهو ما يزيد خبر كراهته الإلتقاء وهنا على وهن .
على انه لو ثبت أن زهيرا كان كارها الإلتقاء بالحسين (ع) في بادئ الأمر كما في خبر الفزاري، فإن ذلك لا يثبث أن منشأ كراهته هو أنه كان عثمانيا كما ذكرنا ذلك بل إن تفاصيل خبر الفزاري تشعر بأنه لم يكن عثمانيا ، فقد ذكر الفزاري أنهم كانوا جلوسا يتغذون مع زهير إذ أقبل إليهم "رسول الحسين حتى سلم ثم دخل فقال يا زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه قال: فطرح كل انسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير " ج4 ص 298 .
فإن هذا المشهد فيه اشعار بأن منشأ كراهة زهير للإلتقاء بالحسين (ع) ليس هو بغضه لعلي(ع) وميله للأمويين بل كان هو إما حبه للعافية والخشية من أن يضطر حياء للنزول عند رغبة الإمام الحسين (ع) وإما أن يكون خائفا من وشاية أصحابه ، إذ لا معنى لأن ينتابه الوجوم ويمسك عن الطعام لمجرد أن الحسين بعث إليه يطلب الإلتقاء به، وكان بوسعه أن يرفض لو كان حاقدا، وكان بوسعه أن يلتقي بالحسين(ع) فيسمعه المسيئ من الكلام أو ينصحه كما نصحه آخرون أو يعتذر إليه كما اعتذر آخرون كعبد الله بن مطيع العدوي وعبيد الله بن الحر الجعفي وغيرهما .
ثم إن الطبري وغيره أردف خبر الفزاري بخبر آخر يؤكد ان زهيرا لم يكن عثمانيا قال : " قال أبو مخنف فحدثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين قالت: فقلت له أيبعث إليك ابن رسول الله (ص) ثم لا تأتيه ؟! سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت ، قالت: فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه قالت : فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم وحمل إلى الحسين ثم قال : لامرأته أنت طالق ، إلحقي بأهلك فانى لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير ، ثم قال لأصحابه : من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، إني سأحدثكم حديثا : غزونا بلنجر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم ؟ فقلنا: نعم ، فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد (ص) فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم ، فأما أنا فإني أستودعكم الله قال: ثم والله ما زال في أول القوم حتى قتل" ج4 ص 299 .
فالذي ينطوي على نصب وعداء لعلي والحسين (ع) أو كان حازما لأمره في مثل هذا الشأن لا يصغي لتبكيت إمرأة، ثم لماذا لم يلبث أن عاد مستبشرا رغم أن القرار الذي اتخذه كان خطيرا ومصيريا ؟ هل إستطاع الحسين(ع) أن يقنعه بهذا اليسر وبهذه السرعة وهو رجل متقدم في قومه وفي سنه وقد درج بحسب الدعوى على بغض البيت العلوي؟! فكيف تمكن الحسين (ع) من اقناعه بهذا اليسر ؟! ولماذا لم يتمكن الحسين(ع) من اقناع الكثير ممن دعاهم لنصرته؟ كل ذلك يعبر عن أن الرجل كان ينطوي من أول الأمر على سريرة خيرة ونفس تخشى الله وتحب الصالحين ، نعم قد تكون مشوبة ببعض العلائق لكنها لا تبغض عليا وأهل بيت النبي (ص) إذ ليس فيمن يضمر العداء لعلي والحسين (ع)- بمقتضى النص النبوي المقطوع -خير أبدا فضلا عمن يجأر به كما هو معنى العثمانية .
وأما ما ذكره البعض من أن عدم ورود اسم زهير فيمن شارك في حروب علي الثلاثة قد يصلح قرينة على انه كان عثمانيا فهو غريب، إذ ان المشاركين في حروب علي (ع) كانوا يتجاوزن أو يقتربون من المائة ألف ولم يحتفظ التأريخ لنا بأسماء أكثرهم بل ولا بأسماء معشارهم وإنما احتفظ بأسماء المشاهير من الصحابة المشاركين والقادة العسكريين وبعض المحدثين من التابعين ، وزهير رحمه الله لم يكن من الصحابة ولم يكن من القادة العسكريين ولم يكن من مشاهير المحدثين بل لم يكن من المحدثين ظاهرا إذ لم نجد له ذكرا في شيء من كتب المحدثين أو كتب الجرح والتعديل بل ولا في كتب التراجم ولم يرد اسمه في كتب التأريخ إلا في قضية الحسين (ع). فإذا كان الأمر كذلك فكيف لنا أن نحرز ولو بمستوى الظن أن زهيرا كان عثمانيا لمجرد أن اسمه لم يذكر في المشاركين في حروب علي الثلاث .
ولو صح التمسك بمثل ذلك لأمكن عكس هذه القرينة المذكورة، وذلك بأن يقال إن عليا(ع) قد استشهد سنة أربعين للهجرة واستولى بعده معاوية على الحاضرة الإسلامية بما في ذلك الكوفة عشرين سنة ووقعت أحداث ومظالم كثيرة وخطيرة لم يرد في شيء منها اسم زهير وانه كان موظفا أو مشاركا أو ممالئا للنظام الأموي، فلم يرد اسمه في شيء من هذه الأحداث وهذه المظالم ، فلم يرد اسمه مثلا في الموقعين على العريضة التي قتل على أثرها حجر بن عدي وأصحابه والحال أنه ورد فيها أسماء الكثير من العثمانيين والأعيان بل إن زهيرا يوم عاشوراء ذكر المعسكر الأموي بهذه الموبقة العظيمة وهو ما يعبر عن أنه كان في منأى منها، وذكرهم بمظالم الأمويين كسمل العيون ، والصلب على جذوع النخل، وبتر الأطراف ، وقتل الأماثل والصالحين من الرجال ، وكل ذلك يعبر عن انه كان ضمن الواجدين والناقمين على بني أمية وليس ضمن المشاركين أو الممالئين لبني أمية ، يقول (رحمه الله) في خطبته الشهيرة يوم عاشوراء :
" يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة ، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد (ص) لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد ، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ويرقعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانئ بن عروة وأشباهه.."
قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اسكت أسكت الله نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك ، فقال له زهير : يا ابن البوال على عقبيه ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة ، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم ، فقال له شمر إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة ، قال أفبالموت تخوفني ، فوالله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم ، قال : ثم أقبل على الناس رافعا صوته ، فقال : عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمد (ص) قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم .." ج4 ص 324 .
مثل هذا الخطاب لا يصدر من عثماني شارك أو أقر النظام الأموي على هذه المظالم ، فلو كان من المشاركين أو الممالئن لما وسعه الجأر بمثل هذا الخطاب، ولو كان معروفا بالعثمانية لذكروه بذلك وعيروه خصوصا أنه ذكرهم بحجر بن عدي وأصحابه الذين قتلهم معاوية لشديد ولائهم وتشيعهم وقد وصف عمر سلطان الأموين كله بالسوء ثم بين العديد من مظالمهم والعظائم التي ارتكبوها في حق الناس ثم تحدث عن أهل البيت (ع) وأفاد أن شفاعة النبي (ص) لا ينالها من أهرق دماءهم بل ولا دماء من نصرهم وأفاد أن هذه الذرية الطاهرة هي الإبتلاء الإلهي والمعيار الذي يخفق فيه المسلم أو يفلح .
فإذا لم يكن ورود اسم زهير في شيء من هذه الظلامات ولم يكن مثل هذا الخطاب دليلا أو قرينة على نفي عثمانيته المزعومة فعدم ورود اسمه في المشاركين في حروب علي (ع) أولى في عدم دلالته على أنه كان عثمانيا .
ثم إني قد تتبعت أخبار الكثير ممن وصفوا بأنهم كانوا عثمانيين فوجدت أن أقل ما يرتكبه هؤلاء هو التنقص من علي(ع) والجأر بغمزه ولمزه والتكتم المفضوح على فضائله وفضائل أهل البيت (ع) فهؤلاء قد يختلف الناس وعلماء الجرح والتعديل في عثمانيتهم ، وأما الذين لا ريب في عثمانيتهم فهم المجاهرون بعداوة علي(ع) والمعلنون لشتمه وسبه وسب أهل بيته أو الممالئون لمعاوية والأمويين على مظالمهم واستئثارهم وكذلك تحيزهم لهم في مقابل أهل البيت (ع) ، وأكثر هؤلاء من المحدثين والقادة السياسيين والأعيان والوجهاء ، ولم أقف على مؤشر واحد يصلح أن يكون قرينة على أن زهيرا كان في المتنقصين لعلي (ع) فضلا عن كونه في المعلنين والمجاهرين بعداوته ، فلم أجد تصريحا أو موقفا ولم ترد عنه رواية واحدة ولو كانت ضعيفة السند تشعر بذلك بل إن الرواية الوحيدة التي نقلت عنه تعبر- لو صحت- عن اجلاله لآل محمد (ص) ولم يرد اسمه في القادة السياسيين أو العسكرين أو الأعيان والوجهاء الذين كانوا في ركاب الأمويين . فمن أين لنا بعد ذلك أن نتثبت من صحة ما زعمه البلاذري وابن الأثير من أن زهيرا كان عثمانيا .
وخلاصة القول : هو أنه ليس ثمة ما يصحح القبول بدعوى أن زهيرا (رحمه الله) كان عثمانيا بل وليس في البين ما يبرر الظن بصحة هذه الدعوى، بل إن المواقف والخطابات التي صدرت عن زهير في الطريق إلى كربلاء ويوم عاشوراء تصلح أن تكون مؤشرا على أن الرجل كان واجدا لبصيرة راسخة ومتقادمة وليست طارئة ، فإن لم تكن هذه الخطابات وهذه المواقف كاشفة عن ترسخ بصيرته وتقادمها فهي دون ريب تؤشر إلى ذلك ، فلاحظ ما نقلناه من خطبته يوم عاشوراء ، ولاحظ قوله الذي لم يصدر عن أصحاب الحسين(ع) مثله حين أحلهم الحسين(ع) من بيعته وأذن لهم بالإنصراف عنه في سواد الليل قال زهير كما في الطبري وغيره:" والله لوددت أنى قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتله وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك " ج4 ص 318 .
وكذلك ما ورد في زيارة الناحية المقدسة :"السلام على زهير بن القين البجلي، القائل للحسين وقد أذن له في الانصراف : لا والله لا يكون ذلك ابدا، اترك ابن رسول الله أسيرا في يد الأعداء وانجو ! لا أراني الله ذلك اليوم ". اقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ج3 ص 87 ، وبحار الأنوار ج45 ص 71 .
فتحية لروحك المتألقة ووفائك الذي سكن في الخلد وبصيرتك الثاقبة والمتوقدة .
المصدر:مركز الهدى للدراسات الإسلامية