تناقلت الكتب الادبية والتراثية اخبار البهلول بتباين واضح .فبعضهم تجاوز المعقول وهو يذكر السبب الحقيقي الذي جعل البهلول (يستجن) ويركب قصبته (على عادة المجانين) ويدخل السوق ويصيح: (خلو الطريق...! لايطأكم فرسي)! وبقي على ذلك الى ان مات، فنجد من يقول: ان البهلول وأمثاله جنوا في تعلقهم بطاعة الله وخروجهم على مألوف الناس في تعبدهم وتقشفهم فكانت بهم لوثة جعلتهم أشبه بالمجانين.
وهذا القول رغم انه احتوى على جزء صغير من الحقيقة إلا انه أخفى الجانب الاكبر منها وهو تنزيه الجانب السلطوي وإزالة تبعاته في حمل هؤلاء على ما فعلوه بأنفسهم، ويجد القارىء اعترافاً من قبل رؤوس السلطة العباسية وأذنابها على أنهم كانوا السبب الرئيسي في حمل البهلول وأمثاله على التظاهر بالجنون ونجد ذلك في أقوال عتاة بني العباس فهذا هارون الرشيد عندما يسمع الناس يقولون: جن بهلول يقول: ما جن، ولكن فر بدينه منا، وقال احد وزرائه عندما لاحظ تظاهُر البهلول بالجنون: ما الفضل إلا فيك وما العقل إلا من عندك وما المجنون إلا من سماك مجنوناً.
فالعبادة والزهد هي من صفات المؤمنين الصالحين، وقد حفل تاريخنا الاسلامي بالكثير منهم ولكننا لم نسمع عن احدهم انه ركب على قصبة في الاسواق وخلفه الصبيان، بل انهم كانوا على أعلى مراتب السكينة والوقار، اذن هناك سبب مهم حمل البهلول على ما فعل من تظاهره بالجنون رغم كونه من المؤمنين الصالحين؟
يستشف القارىء ذلك السبب وهو يتجلى بوضوح من خلال الاخبار المتناثرة في بطون كتب التاريخ عن البهلول وكذلك يستشف معالم شخصيته وجوانبها.
البهلول .. تقيةً
إختلف المؤرخون في تحديد اسم (البهلول) فمنهم من عده اسماً، ومنهم من عده لقباً، خاصة ان معنى كلمة بهلول – لغةً- (هي العقل المجنون الذي يتضاحك ولا يقيم لشيئ وزناً، ويتحقق من الجد بالهزل ومن العقل بالجنون لأسباب اجتماعية وسياسية او دينية)، فأولوا شهرة هذا الاسم لصفة البهل التي عرف بها البهلول فغلبت اسمه فعُرف بها. وذكروا له اسم (وهب) و (وهيب)، ولم يقتصر الاختلاف بين المؤرخين على اسمه فقط، بل اختلفوا في اسم أبيه، فذكروا له اسماء: (البهلول بن عمر) و (البهلول بن عمرو)، و(البهلول بن محمد) ومنهم من زاد اسم المغيرة وجعله جداً للبهلول وجعلوا له كنيتي وهب ووهيب، ورغم هذا الاختلاف في إسمه الا ان تعريفه جاء من خلال لقبه (الصيرفي) أو (الصوفي الكوفي).
وليس هناك مصدر يدل على عام ولادته غير أن كل المصادر اتفقت على عام وفاته وهو سنة 190هـ، ورغم ان صاحبنا البهلول الكوفي لم يكن أول بهلول في التاريخ الاسلامي، إلا انه حاز شهرة واسعة فاقت من سبقه ومن لحقه من البهاليل حيث يذكر لنا التاريخ ان أول من تظاهر بالجنون هو الطفيل بن حكيم الطائي الذي أسر في وقعة (المفتح) مع القراء فسيروهم الى الحجاج فأراد الحجاج ان يقتل الطفيل فأوهم الطفيل الحجاج بأنه قد ذهب عقله فجعل لا يسأله عن شيئ إلا اجابه بخلاف سؤاله فقال الحجاج: ذهب والله عقل الرجل... سواء قتلت على هذا أو قتلت مجنوناً. خلوا عنه. فكان الراوي وهو ابن عياش (اسماعيل العنشي) عالم الشام ومحدثها في عصره يقول: والله لقد كان طفيل بن حكيم من أعقل الناس وأدهاهم ولكنه أوهم الحجاج أنه قد ذهب عقله فأفلت من يده.
لقد كانت تلك الحادثة هي توطئة لسجل البهاليل في التاريخ فكان تظاهرهم بالجنون (تقية) هو الملاذ من بطش الحكام والجبابرة والمتسلطين وقد عاش اكثر هؤلاء البهاليل ومنهم صاحبنا البهلول في الكوفة التي كانت موطن البهاليل انتزاعاً للمعنى من التباله والتباهل معلقاً بالتقية وحفظ النفس، ويدرك القارىء السبب الحقيقي لتباهل هؤلاء في الكوفة، فالكوفة وعلى مدى تاريخها الطويل كانت معقل الثورات ضد السلطتين الاموية والعباسية وقد عاشت اقسى فتراتها في تلك الدولتين، وضمن الطبيعي ان يأخذ معنى البهلول بعداً (سياسياً - فكرياً) اكثر من بعده (اللغوي) ويذكر لنا التاريخ ان الكثير ممن تسموا بهذا الاسم - بهلول - كانوا على جانب من العلم والزهد والفقه والحكمة منهم بهلول أبو تميم الذي كان محدثاً من رواة إبن بابويه القمي (أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين القمي ت381_991م في كتابه من لا يحضره الفقيه) ومنهم البهلول بن حسان بن سنان التنوخي ت 204 وكان من اهل الانبار معروفاً بزهده وعلمه وكذلك سمي حفيده بهلول وهو إبن إسحق بن بهلول الأنباري القاضي المحدث ومنهم أبو القاسم البهلول بن محمد بن احمد بن اسحق ت 380_ 990 والذي كان قاضياً ايضاً وغيرهم.
التضحية لنصرة أهل البيت (ع)
ولنرجع الى صاحبنا الكوفي فقد ذكر (المستوفي) ان أباه عمراً كان عماً للرشيد العباسي واستبعد ذلك السيد محسن الامين في (اعيان الشيعة) وقال لأنه كان كذلك وصف بالهاشمي أو العباسي وغير ذلك لم يذكر المؤلفون شيئاً عن نسبه، وتذكر المصادر أن البهلول كان يعقل ويحسن التصرف مدة ربع قرن وفي هذه المدة كان صيرفياً يتعامل بالمال وأغلب الظن ان هذه المهنة قد ورثها عن ابيه، وقد عدهُ الطوسي من أصحاب الامام الصادق عليه السلام. أما سبب تظاهره بالجنون فقد ذكر السيد محسن الامين في ذلك مصدرين هما (مجالس المؤمنين) للمستوفي الذي يذكر أن الرشيد كان يسعى في قتل الإمام الكاظم (ع) ويحتال في ذلك فأرسل الى حملة الفتوى يستفتيهم في إباحة دمه متهماً إياه بإرادة الخروج عليه ومنهم البهلول فخاف من هذا واستشار الكاظم فأمره بإظهار الجنون ليسلَم.
أما المصدر الثاني فهو (روضات الجنات) عن كتاب (غرائب الاخبار) للتستري الذي قال: إن الرشيد أراد أن يولي رجلاً القضاء فشاور اصحابه فأشاروا عليه الى (بهلول) فإستدعاه وقال له: أعنا على عملنا هذا قال: بأي شيئ أعنك؟ قال: بعمل القضاء قال: أنا لا اصلح لذلك قال: أطبق أهل بغداد أنك صالح له فقال: سبحان الله انا أعرف بنفسي منهم فإن كنت في إخباري بأني لا أصلح للقضاء صادقاً فهو ما أقول وان كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح لهذا العمل...! فألحوا عليه وشددوا وقالوا: لا ندعك أو تقبل قال: إن كان ولا بد فأمهلوني الليلة حتى أفكر في امري فلما أصبح تجانن وركب قصبة ودخل السوق وكان يقول: خلو الطريق لأيطأكم فرسي...! فقال الناس: جن بهلول، لكن هارون قال: كلا؛ ما جن ولكن فر بدينه منا. وبقي على ذلك الى أن مات وسواء صحت الرواية الاولى أم الثانية فإن كلتيهما تدلان على شيئ واحد وهو مقاطعة البهلول للسلطة العباسية وعدها سلطة ظالمة مغتصبة وانتمائه الى أنصار أهل البيت (ع) ومحبيهم وتضحيته في مناصرة الحق ومجانبة الباطل.
ويؤكد ذلك الحصري بقوله (كان يستعمل الجنون ستراً على نفسه) كما دلت الاخبار المتناثرة للبهلول في الكتب على عقل وافر وأنه ليس فيه شيئ من الجنون وأنه كان يظهره لمصلحة من المصالح ورغم أن هناك اخباراً موضوعة خالف فيها المؤلفون ما هو عليه حال البهول من رأيه في المذهب وعقيدته في الائمة (ع)، الا ان المصادر الامامية اتفقت على إخلاصه وإيمانه وحبه لأهل البيت (ع).
السقوط في وهم الجنون
وهناك حكايات اخرى موضوعة وضعها المؤلفون للسمر والتسلية حتى جاء بعدهم من وصف البهلول بقلة العقل والخبال، غير ان الاخبار الصحيحة الثابتة عن البهلول تثبت العكس حيث انه كان على جانب كبير من وفرة العقل والعلم . ويستشف القارىء ذلك من خلال مناظراته التي استشهد فيها بالآيات القرآنية والاحاديث الشريفة وأحاديث الائمة (ع) والوقائع التاريخية، كما دلت مناظراته ايضاُ على سرعة بديهته في إجاباته السريعة والمفحمة إضافة الى العناصر الثقافية التي يتمتع بها ونظرته لدقائق الأشياء وإستخراج الحلول منها.
ومن هذه القصص ما روي أنه سُئل البهلول عن رجل مات وخلف أماً وزوجة وبنتاً، فقال للأم الثكل وللإبنة اليتم وللزوجة النواح وما بقي فللعصبة، ولا يخفى على القارىء اشارة البهلول وتعريضه بوراثة الاعمام (العصبة) التي إدعاها بنو العباس ومن أجوبته المفحمة التي رد بها كيد من أراد به كيداً ما رواه الطبري في الايضاح في مناظرة طويلة مع عمراً بن عطاء العدوي نقتطع منها هذا الجزء وهو ان عمرو قال للبهلول: مَن إمامك؟ قال إمامي مَن أوجب الرسول له على الخلق الولاء وتكاملت فيه الخيرات وتنزه عن الاخلاق الدنيات ذلك إمامي وامام البريات فقال له العدوي: ويلك اذ لا ترى ان امامك هارون الرشيد فقال البهلول: انت لأي شيئ ترى أن أمير المؤمنين خال من هذه الصفات والمحامد والله اني لا أظن إلا انك عدو لأمير المؤمنين مخالف له في الباطن، وتظهر الاعتقاد بخلافته وأقسم بالله لو بلغه هذا الخبر لأدبك تأديباً بليغاً...! فضحك محمد بن سليمان إبن عم الرشيد - وكانت هذه المناظرة في مجلسه وهو يومئذ والي البصرة - وقال لعمرو بن عطاء: والله لقد ضيعك بهلول وجعلك لا شيء وأوقعك في الورطة التي أردت ان توقعه فيها.
وهناك قصص اخرى جرت له مع أتباع السلطة والمعاندين والمنحرفين أظهر فيها البهلول الكثير من الثقافة في أجوبته كما حملت شيئاً من الهزء والسخرية منهم.
الزهد وليس التصوف
كان البهلول زاهداً غاية الزهد وله في ذلك قصص وأخبار كثيرة مما حدا ببعض المؤلفين أن ينسب البهلول الى الصوفية رغم انه لم يكن منهم، ومما يؤكد ذلك أن أول من نسب البهلول الى الصوفية هو إبن الجوزي الذي توفي عام 597هـ أي بعد أربعة قرون من وفاة البهلول ولم ينسب أي أحد البهلول الى هذه الطائفة طوال هذه القرون الأربعة، ثم إن البهلول لم يكن على آرائهم ومذهبهم وطريقتهم فقد بينا السبب في إظهار البهلول الى طريقهم بشتى الوسائل فوضعوا له رواة لأخباره من الصوفية ثم جمعوه ببعض هذه الأخبار مع رؤوس الصوفية وتفننوا في وضع الاخبار التي تجمع البهلول مع شيوخ المتصوفة حتى روى عبد السلام شقرون في روض الرياحين قصة للبهلول مع أبي بكر الشبلي الذي ولد سنة 247 هـ مع أن البهلول مات سنة 190هـ كما ذكرنا . ولكن رغم كل هذه الموضوعات إلا أنها لا تغير من الحقيقة شيئا وهو أن البهلول كان موالياً لأهل البيت وتلميذاً للإمام الصادق (ع) صلباً في عقيدته مضنياً في سبيلها ،آثر آخرته على دنياه وتجرع مرارة الدنيا لسعادة الآخرة فحشره الله مع أوليائه الصالحين.
المصادر:
1- أعيان الشيعة - السيد محسن الامين
2-مراقد المعارف - محمد حرز الدين
3- تاريخ بغداد - الذيول _ الدمياطي
4-في الادب المقارن العربي- التركي _ حسين مجيب المصري
5- عقلاء المجانين-النيسابوري
6- الكشكول - البهائي
7-الاعلام - الزركلي
8-الارشاد - محمد حسين الاديب
المصدر:صحيفة الهدى