لم يكن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالإعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها وليد اللحظة، إنما ترجع جذور ذلك التوجه إلى عام 1980 عندما أصدر الكنيست الإسرائيلي قانون عُرف بـ: (قانون القدس)، الذي أكد على مكانة القدس كعاصمة لـ"إسرائيل". وفي عام 1995 أصدر الكونغرس الأمريكي في عهد الرئيس الأسبق بيل كلنتون قانوناً يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، إلا أن الرئيس آنذاك طلب تأجيل تطبيق القانون مع إمكانية مراجعته كل ستة أشهر من قبل الإدارة الأمريكية.
إن الواقع يؤشر على أن الإعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها اليها لم يكن بعيداً عن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إلا أن الظروف والمعطيات الدولية لم تكن ممهدة ومساعدة على تطبيق ذلك، الأمر الذي كان يدفع نحو التأجيل المستمر لذلك الإعتراف.
ويبدو اليوم أن إدارة الرئيس ترامب وجدت الفرصة السانحة لوضع ذلك الهدف موضع التنفيذ والسير قدماً نحو نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس بدلاً من تل أبيب، الأمر الذي يعكس حجم المؤامرة التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، ولا سيما مدينة القدس، فعملية إحتلال القدس عام 1948 وإستكمال إحتلال ما تبقى منها عام 1967، كان بحاجة إلى إجراء يضفي الشرعية على ذلك الإحتلال وهو ما تم بإعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل".
ولا شك فإن القرار الأمريكي يشكل في أحد جوانبه إستمراراً للسياسة الأمريكية الإنفرادية في التعامل مع القضايا المصيرية للشعوب والأمم، ومخالفة صريحة للمواثيق والقوانين الدولية، وتجاهل للإجماع الدولي في كيفية التعامل مع قضية القدس. فضلاً عن كون القرار يُعد من أسوء القرارات التي أتخذت في تأريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه سوف يشوه صورة أمريكا في العالم سياسياً وإخلاقياً وقانونياً.
ومهما يكن ذلك الحدث وردود الفعل المتوقعة عليه، يمكن التوقف عند بعض العوامل والأسباب التي كانت سبباً في التمهيد لذلك القرار، لعل أهمها:
1- لعبت العوامل الداخلية التي أتسمت بها الساحة الفلسطينية دوراً محفزاً نحو الدفع بإتجاه إتخاذ القرار، من خلال حالة الإنقسام والتشرذم والتفكك التي تعاني منها العملية السياسية في فلسطين، وإتجاه البعض نحو تفضيل المصالح والمنافع الضيقة على حساب المصلحة الفلسطينية العامة، إذ لم تتعامل النخب والقيادات الفلسطينية مع الواقع الداخلي وفق سياسة قائمة على تحقيق الإجماع الداخلي بين مختلف القوى والفصائل الفلسطينية.
2-حالة الضعف والمهادنة التي أتسمت بها أغلب الأنظمة السياسية العربية والإسلامية، مما ترتب عليه خروج بعض الدول العربية عن قاعدة الإجماع العربي والإسلامي والإرتهان للسياسة الأمريكية، والقبول بالوجود الإسرائيلي، إذ وصل الأمر بالبعض من تلك الأنظمة إلى المجاهرة علناً بأهمية التطبيع والتقارب مع الكيان الصهيوني. فضلاً عن أن البيانات والقرارات الصادرة عن الجامعة العربية ولا سيما القمم العربية بشأن قضية القدس لم ترق إلى أفعال من شأنها إخضاع إسرائيل ودفعها نحو تطبيق القرارات الدولية، ومواجهة المتغيرات الديمغرافية والجغرافية والتهويدية القسرية في القدس، وهو ما شجع ذلك الكيان ومن خلفه الولايات المتحدة الأمريكية إلى إتخاذ خطوات أحادية في طريق تصفية القضية الفلسطينية. وهنا لا نستبعد وجود إتفاق أمريكي مع بعض القوى الإقليمية ولا سيما الحليفة لها للسير في هذا التوجه إلى الأمام على الرغم من أصوات الرفض والتنديد التي يواجهها ذلك القرار.
3- نجاح الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في تحويل الأنظار نحو العدو الجديد الذي أصبح يتقدم على الخطر الحقيقي إسرائيل، إذ نجحت تلك الأطراف في تصوير الخطر الإيراني بمثابة التهديد الحقيقي لدول المنطقة، الأمر الذي يستلزم التحالف لمواجهته، وجعل إسرائيل بمثابة المدافع عن الأمن والإستقرار في المنطقة، وهو ما دفع بعض الدول إلى عدم الممانعة بالتقارب مع "إسرائيل" أن دعت الحاجة للتصدي للخطر الإيراني المزعوم.
4- إن قرار الرئيس الأمريكي ترامب بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لا يمكن أن يبتعد عن أجندة الحملة الإنتخابية لترامب بهدف زيادة شعبيته لدى الناخب الأمريكي بعد أن هبطت تلك الشعبية إلى أدنى مستوى لها منذ إنتخابه رئيساً للولايات المتحدة، فالقرار يأتي في إطار حشد المؤيدين لسياسات ترامب وخلق قاعدة جماهيرية مساندة له في مواجهة الضغوط الداخلية التي تعترض سياساته وتوجهاته، إذ تتواجد جماعات ضغط قوية في الولايات المتحدة الأمريكية، يحاول ترامب إستمالة عطفها وتحويلها إلى مناصر لسياساته الداخلية، فضلاً عن كون القرار يأتي تحقيقاً لرغبات المحافظين من الجمهوريين والمسيحيين الإنجيليين الذي يشكلون قسماً كبيراً من القاعدة السياسية لترامب. وهو ما شجع ترامب على إتخاذ ذلك القرار لا سيما وأن القضية الفلسطينية تشكل اليوم حلقة ضعيفة مع وجود موقف عربي ضعيف ومتذبذب.
ولا شك فإن القرار الذي إتخذه الرئيس الأمريكي ترامب سوف تكون له تداعيات وإنعكاسات في حال المضي في تطبيق بنوده، لعل أهمها:
1- يشكل القرار الأمريكي خروجاً عن قاعدة الحياد الظاهري التي أتسمت بها السياسة الأمريكية طيلة العقود السابقة تجاه القضية الفلسطينية، وبإنتهاء دورها كطرف محايد في عملية السلام بإنحياز واضح وصريح للكيان الصهيوني والقبول بالأمر الواقع من خلال سياسة الإستيطان والتهويد والقمع ضد الشعب الفلسطيني.
2- إن القرار سيشكل حافزاً لجميع القوى والفصائل الفلسطينية لإعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية والتلاحم الوطني بين أطياف الشعب الفلسطيني لمواجهة تلك المخاطر والتحديات الجديدة بروح وطنية واحدة.
3- إمكانية فتح جبهة جديدة لمواجهة السياسة الأمريكية، فمدينة القدس لا تنبع أهميتها من كونها منطقة جغرافية، بل هي منطقة لها أهميتها العقائدية تخص مشاعر كافة العرب والمسلمين في العالم، الأمر الذي يعني فقدان الثقة بالسياسة الأمريكية من قبل شعوب ودول المنطقة، ويؤكد ضعف وهشاشة السياسة الأمريكية مستقبلاً.
د. سليم كاطع علي/ باحث في الشؤون الدولية
المصدر:مركز المستقبل للدراسات الإستراتيجية