هناك مساحة واسعة من الضلال في حياة الناس الجاهليين: فمن جانب هناك الزمام المنفلت للشهوات النفسانية والشهوات الجنسية وما إلى ذلك - ولكم أن تنظروا إلى بيئة الجزيرة العربية هذه، وقد كانت باقي البيئات في ذلك الزمن على نفس النحو، فقد كانت غارقة في الشهوات بشكل منفلت وكان بوسع كل شخص أن يمارس شهواته - ومن ناحية أخرى فإن نفس هؤلاء الناس التابعين لشهواتهم كانوا على صعيد القسوة والتدمير وسفك الدماء يذهبون كل مذهب ولا يقفون عند حدود معينة، فقد كانوا يقتلون أبناءهم {قَد خَسِرَ الَّذينَ قَتَلوا اَولادَهُم سَفَهًا بِغَيرِ عِلم} . إنهم يفعلون ذلك بدافع السفاهة، والسفاهة هي نفسها الجاهلية. لقد وصلت القسوة إلى درجة يقتلون فيها لا أطفال الناس فقط ولا نساء وأطفال الآخرين الأبرياء فقط، بل لا يرحمون حتى أطفالهم! هذه هي الجاهلية. الشهوة من ناحية والغضب من ناحية أخرى، وإذا بأجواء الحياة تقع أسيرة لهذين الشعورين الجامحين المنفلتين. وجاء الإسلام ليغير هذا الوضع. وطبعاً كان نفس هذا الوضع بالضبط في بلاطات إيران الساسانية وفي بلاطات الرومان، وفي سائر الأماكن التي تحكمها إمبراطوريات وبلاطات وحكومات طاغوتية ظالمة. ونهض الإسلام بوجه كل هذا الواقع القبيح {لِلعالَمينَ نَذيرًا} . لقد خاطب العالم كله بإنذاره، هذه هي رسالة الإسلام.
والجاهلية موجودة في العالم اليوم أيضاً. علينا أن نفتح أعيننا ونعرف الجاهلية. اليوم أيضاً يوجد نفس هذا المعنى، حيث الشهوات غير المحدودة والمنفلتة وغير المنطقية. منطق الشهوات في العالم الغربي اليوم هو «الميل». نقول: لماذا تروّجون للشذوذ الجنسي والمثلية الجنسية؟ يقولون: لأن هذا ميل بشري. هذا هو منطقهم! ونفس هؤلاء الذين لا يقفون عند حد في باب الشهوات، حيث لا يراعون أية خطوط حمراء في مجال الشهوات الجنسية وشتى الشهوات البشرية، ويذهبون فيها كل مذهب، حينما يأتي الدور للقسوة يمكن أن نشاهد نفس تلك الحالة من انفلات الزمام: يقتلون البشر ويذبحون الأبرياء ويقمعون الشعوب دون أي ذنب. هذه هي الجاهلية القائمة في العصر الحاضر؛ الجاهلية الحديثة. الفرق بين هذه الجاهلية والجاهلية في صدر الإسلام - الجاهلية الأولى حسب تعبير القرآن الكريم - هو أن الجاهلية اليوم متسلحة ومجهزة بسلاح العلم، فالعلم الذي ينبغي أن يكون مبعث فلاح للإنسانية أضحى وسيلة لتعاسة الإنسانية وبؤس المجتمعات البشرية. الذين يتعسفون مع سكان العالم اليوم يتعسفون بالاعتماد على منتجاتهم العلمية، فالأسلحة التي يمتلكونها هي من صناعة وإنتاج العلم، وأدواتهم المعلوماتية والأمنية والأجهزة الإعلامية الهائلة التي يمتلكونها كلها من منتجات العلم، وكل هذه تستخدم لخدمة الشهوات والغضب. هذا هو الوضع في العالم اليوم. المجتمع الإسلامي يواجه مثل هذا الواقع، وعلى العالم الإسلامي أن يشعر بهذا ويدركه..