تسمح المسافة الفاصلة بين انفجار ربيع تونس يوم السابع عشر من شهر كانون الأول /ديسمبر 2010 واللحظة الراهنة بتبيين الكثير من التقاطعات ونقاط الارتكاز القادرة على إزاحة المعطيات الهامشية عن المشهد التونسي. لكنه من الأساسي قبل البدء في تحديد مرتكزات الحدث من رسم ثلاث ملاحظات أساسية:
أولا: لم يكن من الممكن تحليليا قراءةُ المشهد التونسي خلال السنوات التالية للثورة مباشرة بسبب تتابع الأحداث سريعا بفعل الخاصية الانفجارية للحدث.
فكثافة الغبار الذي تلا الانفجار النوعي الكبير وتتابع الرجات الارتدادية عربيا ودوليا فيما عرف بالربيع العربي لم تكن لتسمح بتحديد موضوعي دقيق لمختلَف الآليات التي حكمت الحركة الاجتماعية والسياسية الضخمة التي عرفتها المنطقة سواء في نشأتها أو في مسارها أو في مآلاتها.
ثانيا: إن طبيعة الحدث البركاني لم تكتمل بعدُ رغم إمكانية القول بأن الموجة الثورية الأولى قد خمدت بفعل مجموعة من العوامل الذاتية أي تلك المتعلقة بالموجة الثورية نفسها أو بفعل عوامل خارجية تتعلق أكثر بردود الأفعال على الموجة نفسها وخاصة ما اصطلح عليه فيما بعد بفعل الثورة المضادة أو آليات الدولة العميقة.
بناء عليه فإن قراءة هذا المقطع لا تسمح ولا تحتم بالضرورة سحب نتائجه على بقية الأحداث التي سبقته أو التي ستليه.
آخر الملاحظات لا تنفصل عن سابقتها ومفادها أن الحدث الثوري التونسي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينفصل في قراءته عن مجموع المعطيات الإقليمية عربية كانت أو غير عربية أو عن البقية المعطيات الدولية.
بل إن الصعوبة التحليلية الكبرى إنما تكمن أساسا في القدرة على الفصل بين هذه المعطيات من ناحية وتحديد مقدار تأثيرها ومساهمتها في تشكيل الحدث وتحديد خصائصه.
لا تتحدد الفواعل الإقليمية في الحالة التونسية بدول الجوار المباشرة فقط بما هي دول تتفاوت درجات تأثيرها في المشهد التونسي حسب طبيعة النظام السياسي الذي يحكمه بل تتجاوز ذلك إلى المحيط الحضاري واللغوي والجغرافي الذي يحكم تونس بما هي جزء من محيطها العربي الإسلامي.
فإذا كان تأثير ليبيا في جنوب البلاد وشرقها وتأثير الجزائر في غرب البلاد يعتبر أهم التأثيرات المباشرة بفعل التماس الجغرافي فإن تأثير باقي الدول العربية لا يقل فعالية وأثرا في المشهد التونسي وإن بشكل غير مباشر.
إن سرعة تفاعل المشهدين التونسي والليبي في تحقيق الحركة الثورية جعل منهما مشهدين متلازمين رغم اختلاف طبيعة الموجة الثورية لكل منهما إذ سرعان ما تسلحت الثورة الليبية بعد أن فرض النظام الليبي مبدأ الحسم العسكري.
يبقى المشهدان متلازمين أيضا رغم أن الموجة الثورية المصرية هي الأقرب في خصائصها من الموجة التونسية سواء في زمانها أو في طبيعة وسائلها الإجرائية.
هذا الإقرار إنما يتأسس على عوامل تاريخية وجغرافية وبشرية باعتبار الروابط العائلية المتينة التي تجمع سكان الجنوب التونسي عامة وخاصة جنوبه الشرقي بغرب ليبيا منذ قرون.
فعلى طرفي الحدود توجد نفس العائلات وهي امتداد مباشر لنفس النسيج القبلي والاجتماعي واللساني اللهجي.
خلال الثورة لم يكن تأثير الجوار الليبي يذكر بسبب سرعة المنجز التونسي أساسا بشكل لم يسمح للطرف الليبي ممثلا في نظام العقيد القذافي بالاستعداد لمنع حدوث الكارثة وليس أدل على ذلك من الخطاب التاريخي الذي ألقاه العقيد الليبي غداة هروب بن علي عندما اعتبره خير من حكم تونس.
كرس الإعلام الليبي مفهوم الدواعش التونسيين باعتبارهم مصدر العمليات الارهابية التي نفذت على الأرض الليبية وهي عمليات شارك فيها فعلا تونسيون مثل مجموعة أحمد الرويسي أو ما يعرف بجماعة أنصار الشريعة.
سرعة المنجز الثوري عربيا ساهمت كذلك في تشتيت رد الفعل الليبي لحظة انفجار الوضع المصري فأصبحت بذلك الثورة التونسية فعلا ثانويا مقارنة بما يمكن أن يحدث في مصر حينها.
هذا وقد كان العقيد القذافي يعدّ العدة لإعادة صديقه القديم بن علي إلى السلطة قبل أن تنفجر بعدها ثورة فبراير المجيدة.
عند اندلاع ثورة فبراير ظهر جليا حجم التأثر والتأثير بين الحدث التونسي والحدث الليبي حيث بلغ عدد الليبيين المتواجدين على الأراضي التونسي في أوج الثورة ما يزيد عن مليوني نازح.
نجحت تونس في استيعاب عشرين ألف وافد ليبي يوميا خلال أوج المواجهات المسلحة بين الثوار من ناحية وكتائب القذافي من ناحية ثانية وشكلت هذه التجربة لحظة تاريخية في تاريخ التلاحم والتآزر بين الشعبين وهو تضامن لعب فيه المد الشعبي العفوي دورا مركزيا خاصة من العائلات والأفراد والجمعيات.
بعد سقوط نظام القذافي لم تدم المرحلة السلمية طويلا إذ سريعا مما ظهرت الانشقاقات بين القوى المحسوبة على الثورة وبين الثوار الأصليين حيث يدّعي كل منهما أحقيته بالسلطة ولم يتأخر ظهور الجنرال حفتر وبروز الجماعات الارهابية المسلحة وعلى رأسها تنظيم داعش الدموي.
هنا بدأ الشرخ يظهر إلى السطح بين المشهدين حيث كانا في السابق يترافدان على مستوى دعم نجاح الثورة والثوار ضد النظام القائم لكن الثورة المضادة مدعومة بفعل الفوضى نجحت في فرض عناصر الفشل بين الحدثين.
بعد سقوط نظام القذافي لم تدم المرحلة السلمية طويلا إذ سريعا مما ظهرت الانشقاقات بين القوى المحسوبة على الثورة وبين الثوار الأصليين
فمن جهة تونس دأب الإعلام الرسمي الخاص والعمومي التابع برمته للدولة العميقة في اتهام ليبيا بإيواء الإرهابيين وتهديد الأمن القومي التونسي مستدلين بعمليات إرهابية قادمة من الأرض الليبية مثل عملية بنقردان الشهيرة.
من جهة ليبيا كرس الإعلام الليبي مفهوم الدواعش التونسيين باعتبارهم مصدر العمليات الارهابية التي نفذت على الأرض الليبية وهي عمليات شارك فيها فعلا تونسيون مثل مجموعة أحمد الرويسي أو ما يعرف بجماعة أنصار الشريعة.
ففي الحالتين ركز إعلام الثورات المضادة العائد بقوة بعد انحسار الموجة الثورية الأولى على ضرب اللحمة التي خلقتها الثورات وهو ما سيسمح بضرب خطوط الإمداد السارية بين البلدين خاصة على المستوى الاقتصادي والتجاري والطبي والخدماتي بشكل عام.
اليوم تستبسل الثورة المضادة في تونس بأبواقها المختلفة في تعمد الإساءة للشعب الليبي ولثورته وهي إساءة بلغت ذروتها مؤخرا مع السخرية العلنية واتهام الليبيين بتجارة الرقيق وبسوء معاملة المهاجرين في الوقت الذي تغص فيه مراكز الايقاف التونسية بمدنيين تصل معاملتهم أحيانا إلى حدود الموت تحت التعذيب كما حدث في حالات كثيرة.
يظهر جليا اليوم أن تقاطع المنجز الثوري إيجابا يؤدي في حال انحساره إلى تقاطع المنجز الثوري المضاد سلبا وهو ما يؤكد أن نجاح الثورة وفشلها لا يتحدد فقط بالعوامل الداخلية الذاتية بل يتحدد أيضا بالعوامل الخارجية.
هذا الإقرار إنما يستمد مصداقيته من طبيعة الدول العربية بما في الحقيقة مكون واحد لا يكف عن التفاعل سلبا وإيجابا رغم حدود سايكس بيكو ووعي سايكس بيكو الحارس لخطوط الرمل.
بقلم : محمد هنيد
المصدر: عربي 21