هذا هو القسم الرابع من "ماذا تعرف عن القدس الحبيبة ؟"كما جاء في مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا ،حيث سنتكلم فيها عن الحوادث التي وقعت في القدس من ظهور للمسيحية و فتح لها و كيف أنها شكلت خط الدفاع الأول عن الإسلام وبلاد المسلمين وكذلك نص العهد الذي أعطاه الخليفة الثاني للقدس .
ظهور المسيحية
أدّى اعتناق "الإمبراطور قسطنطين" المسيحية في القرن الرابع الميلادي، إلى تغيير جذري في تاريخ المدينة، حيث أصدر قسطنطين سنة 313م، مرسوماً يقضي بمنح المسيحيين حرية العبادة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وأصبحت أورشليم مقدسة عند المسيحيين إذ حج إليها السيد المسيح منذ صباه.
اهتم قسطنطين بالمسيحيين والديانة الجديدة، وكذلك استطاعت أمه الإمبراطورة "هيلانة" هي والمطران "مكاريوس"، أن تقيم من الأمكنة التي ارتادها المسيح، وأن تقيم كنيسة القيامة وأصبح لأورشليم أهمية منذ ذلك التاريخ. فسعى إليها الحجيج من كل مكان، وكثرت الكنائس ولا سيما في عهد الإمبراطورة "ايودك" 441- 460م. وأصبحت الإمبراطورية الرومانية تدين بالمسيحية، إلا أن تغييراً حدث بعد مرور حوالي ربع قرن من الزمن على وفاة قسطنطين، وهو تولي الإمبراطور "جوليان" العرش الروماني سنة 361م، وقد سمي بالمرتد؛ لانحرافه عن المسيحية ورجوعه إلى الوثنية، ولكنه قتل في حملته على بلاد الفرس في حزيران 363م.
وبموت جوليان تم تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: غربي، وشرقي. وكانت فلسطين ضمن القسم الشرقي البيزنطي. وشهدت فلسطين بهذا التقسيم فترة استقرار دامت أكثر من مائتي عام، الأمر الذي ساعد على نمو وازدهار البلاد اقتصادياً وتجارياً وعمرانياً؛ مما ساعد في ذلك مواسم الحج إلى الأماكن المقدسة.
ولم تستمر هذه الفترة من الاستقرار؛ ففي سنة 611م دخل ملك الفرس "كسرى الثاني" (أبرويز) في الفترة (590- 638م) على سوريا، واستمر في تقدمه، حتى احتل القدس في 614م، فدمر الكنائس والأماكن المقدسة، ولا سيما كنيسة "القبر المقدس"، وانضم من تبقى من اليهود إلى الفرس في حملتهم هذه؛ رغبة منهم في الانتقام من المسيحيين، وهكذا فقد البيزنطيون سيطرتهم على البلاد.
ولم يدم ذلك طويلاً، فقد أعاد الإمبراطور "هرقل" فتح فلسطين سنة 628م، وطرد الفرس ولاحقهم حتى بلادهم، واسترجع الصليب المقدس. ثم جاء الفتح العربي الإسلامي ليفتح المدينة، وكان ذلك في معركة اليرموك سنة 636م، وتبعتها الفتوحات الإسلامية.
الفتح الإسلامي
شكلت فلسطين والقدس خط الدفاع الأول عن الإسلام وبلاد المسلمين، واستمدت المدينة أهميتها الدينية عند المسلمين، ليس لأنها ذات أصول عربية كنعانية فحسب، بل لأنها مهد الرسالات أيضا، فمنها عرج رسول الله "محمد" صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع وتكلم إلى ربه، وتم فرض الصلوات الخمس على المسلمين، ثم العودة من السماوات العلى إلى بيت المقدس ومنها إلى مكة المكرمة.
فلم يختر الله سبحانه وتعالى بيت المقدس مكاناً لإسراء نبيه، عبثاً، ولكنها مشيئة إلهية سماوية رسمت منذ ذلك التاريخ وإلى الأبد، علاقة ملايين المسلمين بهذه البقعة المقدسة من الأرض، وهي بالنسبة لهم من أقدس المقدسات، وهي المكان الذي يحجون إليه، فهو قبلتهم الأولى وثالث الحرمين الشريفين بعد الكعبة المشرفة ومسجد النبي في المدينة المنورة.لقد بدأ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد الجهر بالدعوة الإسلامية وانتشارها، بتوجيه أنظار المسلمين وقلوبهم إلى مدينة القدس، مدركا أهميتها الدينية والروحانية لدى المسلمين، فبعث في جمادى الأول سنة ثمان للهجرة أول قوة إسلامية إلى بلاد الشام، وجعل على رأس هذه القوة، التي لا تزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، زيد بن حارثة. سارت القوة إلى بلاد الشام للاشتباك بجيوش الروم، حيث علم المسلمون أن "هرقل" قد حشد في مؤاب بأرض كنعان، مائة ألف من الروم، وانضم إليهم مثل هذا العدد من القبائل العربية المجاورة، فدب التوتر في نفوس المسلمين، وفكروا في أن يطلبوا النجدة من رسول الله "محمد"، إلا أنهم آثروا الاشتباك مع جيوش الروم؛ طلباً للنصر أو الشهادة في سبيل الله لدخول الجنة.زحف المسلمون إلى الشمال، حتى قابلتهم جموع الروم في مؤتة بالقرب من مدينة الكرك في الأردن، ودارت رحى المعركة غير المتكافئة، وما لبث أن انسحب جيش المسلمين لإنقاذ القوة من فناء أكيد، وكانت هذه الحادثة بمثابة الاختبار الأول للمسلمين وإرادتهم الشجاعة في تحرير بيت المقدس، واستعدادهم التام للتضحية والفداء من أجل القدس.أمر الرسول الكريم بتجهيز جيش يقوده "أسامة بن زيد"؛ للانتقام لشهداء مؤتة، وانتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وجيش أسامة يتأهب للسير شمالاً، فأمر الخليفة أبو بكر الصديق أن يواصل جيش أسامه سيره ويحقق المهمة التي كلفه بها رسول الله، واشتبك جيش أسامه مع القبائل العربية التي ساندت جيش الروم ضد قوة المسلمين، ولقنها درساً، وعاد إلى المدينة المنورة.
وبعد أن انتهى الخليفة "أبو بكر الصديق" من حروب الردة، في أعقاب وفاة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- وبعد أن تم تدعيم أركان المسلمين، أعدّ جيشاً لغزو بلاد الشام وتحرير بيت المقدس، وقدر عدد الجيش بأربعة وعشرين ألفاً من جنود المسلمين الأشداء، وزحف جيش المسلمين شمالاً وحارب الروم في معارك جانبية إلى أن وصل مشارف دمشق في "حوران".
أما الروم فقد تجمعوا استعداداً للمعركة الحاسمة في وادي اليرموك، الفاصل بين سورية والأردن، بعدد يقدر بعشرة أضعاف جيش المسلمين، ومن ناحية أخرى قدم خالد بن الوليد على رأس جيش مجهز، وتوحد الجيش بقيادة "خالد بن الوليد"، ودارت المعركة الفاصلة وكان النصر حليف المسلمين في اليرموك، وبعد ذلك اتجه جيش المسلمين إلى دمشق، حيث حاصرها، وتم فتحها، وهزم الروم شر هزيمة. وبعد أن فرغوا من بلاد الشام، وجهوا جزءاً من قواتهم إلى فلسطين، وفتحوا مناطق عديدة منها وحاصروا إيلياء (القدس) زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، واستمات الروم في الدفاع عن بيت المقدس، بيد أن الدين الجديد وما يزرعه في نفوس قواته، قد انتصر على عناد الروم، ودب الضعف في نفوسهم. ولما اشتدّ الحصار على بيت المقدس سنة 636م، ظهر البطريرك "صفرونيوس" من فوق أسوار المدينة وقال لهم: "إنا نريد أن نسلم، لكن بشرط أن يكون ذلك لأميركم، فقدموا له أمير الجيش فقال: لا، إنما نريد الأمير الأكبر، أمير المؤمنين، فكتب أمير الجيش إلى عمر بن الخطاب.
فخرج عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس، ولما أطلّ على مشارفها وجد المسلمين في استقباله خارج بابها المسمى بباب دمشق، وعلى رأسهم البطريرك "صفرونيوس". وكان عمر على راحلة واحدة ومعه غلامه، فظهر لهم وهو آخذ بمقود الراحلة وغلامه فوقها، وكان عمر قد اشترط على غلامه أن يسير كل منهما نفس المسافة، يركب واحد، والآخر يسير على الأقدام بالتساوي، فعندما وصلا كان دور الغلام وعمر بن الخطاب يأخذ بمقود الراحلة. فبينما رأوه كذلك خروا له ساجدين، فأشاح الغلام عليهم بعصاه من فوق راحلته وصاح فيهم: "ويحكم إرفعوا روؤسكم، لا ينبغي السجود إلا لله، فلما رفعوا رؤوسهم انتحى البطريرك "صفرونيوس" ناحية وبكى، فتأثر عمر وأقبل عليه يواسيه قائلاً: "لا تحزن هون عليك، فالدنيا دواليك يوم لك ويوم عليك"، فقال صفرونيوس: "أظننتني لضياع الملك بكيت؟ والله ما لهذا بكيت، إنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية ترق ولا تنقطع، فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين ثم تنقرض مع السنين".
وتسلم ابن الخطاب مفاتيح القدس من البطريرك "صفرونيوس"، وخطب في تلك الجموع قائلا: "يا أهل إيلياء لكم مالنا وعليكم ما علينا". ثم دعا البطريرك لتفقد كنيسة القيامة، فلبّى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فتلفت إلى البطريرك وقال له أين أصلي؟ فقال: مكانك صل، فقال: "ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة، فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجدا". وابتعد عنها رمية حجر، وفرش عباءته وصلى، وجاء المسلمون من بعده، وبنوا على ذلك المكان مسجداً، وهو قائم إلى يومنا هذا.
نص العهد الذي أعطاه الخليفة عمر للقدس "العهدة العمرية":
بسم الله الرحمن الرحيم: "هذا ما أعطى عبد الله "عمر" أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صلبهم، ولا من شئ من أموالهم ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله، حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله، لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية".
شهد على ذلك كتب وحضر سنة 15 هـ عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان.
مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا