شذرات من حياة العارف الواصل آية الله بهجت(قده)(القسم الأول)

السبت 16 ديسمبر 2017 - 12:51 بتوقيت غرينتش
شذرات من حياة العارف الواصل آية الله بهجت(قده)(القسم الأول)

ولله درّه أيّ دقّة لا متناهية في تطبيق حدود الله تعالى كانت عند الفتى «محمّد تقي»، والّتي جعلته مراعياً لحدود شريعة ربّه إلى هذا الحدّ، لقد قرّر الفتى الّذي بلغ سنّ التّكليف وبلغ من عمره خمس عشرة سنة أن يترك بيت عمّه...

بشارة الطّفل الموعود

في ليلة الجمعة الخامس والعشرين من شوّال سنة ١٣٣٤ هـ . ق، أنار منزل محمود الكربلائي وليدٌ، جعلته يد القدرة الإلهيّة فيما بعد مَعِينَاً ينهل منه عشّاق العلم والمعرفة من شيعة أهل بيت العصمة والطّهارة صلوات الله عليهم، ومناراً يُضيء لسالكيه درب السير إلى الله سبحانه وتعالى؛ إنّه آية الله الحاج الشّيخ محمّد تقي البهجة (البالغ مناه). لقد كان محمود الكربلائي ذلك الرّجل الصّالح وذو الصّيت الطيّب في مدينة "فومن") من توابع محافظة جيلان في شمال إيران( على موعدٍ مع مولوده الّذي حباه الله إيّاه وبُشِّرَ باسمه الموعود به، منذ سني شبابه، وذلك من خلال حادثة ألمّت به، حيث كانت مدينة فومن -قبل أكثر من عشر سنوات من الولادة الميمونة للشّيخ البهجة- قد تعرّضت لهجوم مرض فَتكَ بأهاليها واحداً تلو الآخر، وحصد العديد من أبنائها، وقد طال المرضُ الميرزا محموداً فراح ينازع سكرات الموت، ولكن القدرة الإلهيّة شاءت أن يبقى والد «محمّد تقي» على قيد الحياة، إثر رؤيا كانت أشبهَ برؤيا الأنبياء والصّالحين، كبشارة الملائكة لزكريّا بابنه يحيى (عليهما السّلام)، حيث بُشّر بقدوم الطّفل المبارك «محمّد تقي» وهو لا يزال في أول أيام شبابه، وكان آنذاك في السّابعة عشرة من عمره، ولم يكن متزوِّجاً بعد، فكانت بشارةً سبقت الزَّمان والمكان، وبشَّرت بقدوم هذا الطّفل حيث سمع وقتها صوتاً ينادي: "دعوه إنّه والد محمّد تقي" فعادت إليه الحياة وصار ينتظر قدومه بشوق ولهفة، وبعد سنوات من الصّبر والتّوسل والنّذورات الّتي قدمتها والدة الطفل «مرضيّة خانم» تلك المرأة المقدّسة العابدة، وُلِدَ «محمّد تقي» ليضفي بهذه الولادة الميمونة على فومن وأهلها نوراً وسحراً وجمالاً من نوع آخر ...

الطّفولة المباركة

وما إن بلغ هذا المولود شهره السّادس عشر حتّى اختطفت يدُ الموت أمّه الحنون التّي كانت تغدق عليه الحبّ والرّحمة، وفَجَعَ فقدُها تلك الأسرة الّتي خيّم عليها الحزن والألم، إلّا أنّ أُخته الكبيرة «معصومة خانم» قامت مقام أُمّها وتكفّلت تربيته فأصبحت أُمّاً لأخيها، تصحبه معها أينما حلّت.

في أحد الأيّام أرادت «معصومة خانم» أن تقوم برفقة عدد من نساء المدينة بزيارة أحد مراقد أبناء الأئمّة (عليهم السّلام) القريبة من مدينتها، فاصطحبت معها الطّفل «محمّد تقي» وتوجّها معاً إلى زيارة المرقد الطّاهر، وهناك حيث هدأت الأصوات وخشعت القلوب للّه الجبّار، كانت توجد حصاة بالقرب من الضّريح المبارك معروف عنها أنّها ما من زائر دعا عندها إلّا وتمّت الإجابة له بالرّد أو القبول، وتقدّم الطفل ليهمس بكلمات العشق المكنونة في صدره سائلاً: "هل سأتشرف بزيارة كربلاء؟" فتحرّكت الحصاة في كفّه إعلاناً بقبول الإجابة، وهذا يدلّ على المقام المعنويّ لهذا الطّفل الّذي كان يختلف كلياً عن باقي الأطفال، حيث كان بعيداً كلّ البعد عمّا يهوونه من ملذّات الدنيا الطّفوليّة، بل كان مستغرقاً في عالمه الإلهيّ الخاصّ.

وترعرع «محمّد تقي» يصطحبه والده في ذهابه وإيابه حتّى أصبح جليس أبيه ومؤنس وحدته، وهو يرى بحجمه الصّغير وروحه الكبيرة كيف يتحوّل حبّ أهل بيت النّبي الأطهار (عليهم السّلام) في قلب والده الحزين إلى منهلٍ يروّي صفحات الأوراق، لتتفجّر ميراثاً يردّده المتولّهون بحبّ الحسين (عليه السّلام)، ثمّ يتحوّل إلى تمتمات تترنّم بها شفاهُهم في مجالس العزاء الحسينيّ. حتّى إذا ما تشبّعت نفس «محمّد تقي» الصّغير بهذه التّلاوات الحسينيّة وارتوت روحه بنفحاتها النديّة، بدأ قلبه يتبرعم رويداً رويداً على حبّ شهيد العشق والمحبّة، وبقي يلتاع ألماً وحزناً بلوعات مصاب ذلك الإمام المظلوم، لما يقرب قرناً من الزّمن حتّى وُورِيَ الثّرى.

هكذا درج «محمّد تقي» من عشقه لسيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام)، حتّى انتهى به المطاف إلى زاوية في «مكتب خانه(كتاب) الملّا حسين الكوكبي الفومني»، وهو مكان مؤلّف من غرفة واحدة ينعقد في هدوئها محفلٌ لتعليم القرآن، حيث يجلس المُلّا ليعلّم تلامذته قواعد التّلاوة القرآنيّة، وهنا أصبح «محمّد تقي» وهو في نعومة أظفاره يتلو آيات القرآن الكريم، ليطوي هذه المرحلة من عمره بذلك الصّوت الجذّاب الّذي راح يبدّد ذلك الهدوء وهو يرتّل «الحمدلله ربّ العالمين»، لتمتلئ نفسه التوّاقة بنور الذّكر الحكيم، ويتعطّر فمه بتلفّظ السورة المباركة، إلى جانب ذلك راح هذا التّلميذ وبجديّة فائقة الوصف، وشوق متزايد يطوي السير سبع سنوات بتجوال بصره وإعمال فكره في المتون الأدبيّة الفارسيّة، ككتابي «بوستان» و"كلستان")وهما كتابان في النّثر و النّظم باللغة الفارسيّة( و كتاب «كليلة ودمنة» وبعض الأُمور الحسابيّة، حتّى أصبح من تلاميذ الأستاذ الأوائل.

ويتألّق النّور الإلهيّ فيبدو جليّاً على الفتى، وتظهر ملامحه للجميع، فقد استطاع أن يدرك الحالات المعنويّة والمقامات العاليّة لإمام الجماعة في مسجد منطقته «الشّيخ أحمد السعيدي» الّذي كان معروفاً بزهده وتقواه بين أهل المدينة، وكلّ ذلك بفضل نقاء فطرته وبصيرته الّتي كانت تخرق الحجب لتصل إلى معدن العظمة، حتّى صارت روحاهما تلتقيان في المسجد عند كلّ صلاة، فكأنّ الشّيخ أحمد السّعيدي هو أوّل شخصيّة قد تأثّر بها الطّفل، فراح ينهل من معينها علوماً وفيوضات إلهيّة، جعلته نجماً متألّقاً في الحكمة والرّصانة وعمق التّفكير، حيث جرت ينابيع الحكمة على لسانه، وظهرت في حركاته وسكناته، لتكون عِبَرَاً لمن ألقى السّمع وهو شهيد، وينقل في ذلك أحد المعمّرين من مدينة فومن:

إنّه في إحدى اللّيالي، وبينما كان يسير «محمّد تقي» مع صديقه في الشّارع وإذا بهما يريان حشرة مضيئة، فيقترب «محمّد تقي» منها مطلقاً عبارات الحكمة قائلاً لصديقه: «يمكن للإنسان أن يكون مصدراً للنّور، ويضيء بنوره للآخرين كما يفعل هذا الكائن الصغير المضيء!» فاستغرب صديقه من كلامه فأكمل الطّفل "محمّد تقي": "ليس ذلك إلّا بترك المعصية!" وكأنّ يد الغيب تطلق على لسانه كلمات فيها من الحكمة والموعظة ما هو لأولياء الله ينابيع علم خصّهم بها، ليدلّ كلّ ذلك على مقام وعظمة هذا الطّفل عند الله. وكذلك تميّز بعلمه وبالإحاطة الشّاملة والتّامّة بِالمسائِل الفقهيّة، حيث كانت ترجع إليه النّساء العفيفات في المسائل الشّرعيّة الخاصّة بهنّ لصغر سنّه، ولاستحيائهنّ من الرّجوع في ذلك إلى علماء المنطقة.

لكنّ روح هذا الفتى العطشى لم ترتوِ بعدُ، حيث كانت تتطلّع للمزيد من المعرفة فيمّم وجهه شطر الحوزة العلميّة في فومن، لتُفكِّك له بمعارفها أسرار آيِ الذّكر الحكيم، ورموز روايات الأئمّة الأطهار من آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين لِتَعيَها أُذنه الواعية. وهنا في فومن بدأ «محمّد تقي» دراسة المقدّمات الحوزويّة عند «الشّيخ القاضي المتّقي»، والّذي كان يهتمّ به لنشاطه ومثابرته واستعداده، وكان «محمّد تقي» يرسّخها بحلقات المباحثة والحوار ومذاكرة العلوم الدّينيّة المختلفة.

ولم تنته تطلّعات «محمّد تقي» عند الدّراسة الفقهيّة فحسب، بل كان يطوي بموازاة ذلك طريق المعرفة والأخلاق وتهذيب النّفس وكسب الفيوضات المعنويّة على يد «آية الله الحاج الشّيخ أحمد السّعيدي الفومني»، خاصّة تلك الأوقات الّتي كان يأتمّ فيها بهذا العالم الربانيّ وما تحمله من بهاء معنويّ وصفاء باطنيّ، بقيت آثارها في مخيّلة الإمام والمأموم.( لقد كان آية الله سعيدي الفومني فيما بعد يتقصّى أخبار آية الله البهجة سائلاً والده: "ما هي أخبار زميلنا؟")

ولم يكن هناك شيءٌ يمنع «محمّد تقي» عن زيارة قبر والدته «مرضيّة خانم» على الرّغم من انشغاله الدّائم والمستمرّ في تحصيل العلوم والمعارف، وبالإضافة إلى مساعدته لوالده، واستغراق وقته كلّه لكنّه كان يزور قبر أُمّه الّتي لم ترها عيناه منذ الصّغر، فَلِكَمال معرفتهِ بحقّها عليه وتمام بِرّه بها كان يوفي ذلك الحقّ بمواظبته كلّ يوم على زيارتها مرتّلاً عندها آيات من الذّكر الحكيم، إلى أن تمّ نقل القبر فيما بعد الى أرض الطّفّ بجوار الإمام الحسين (عليه السّلام).

خطوات على طريق الهجرة

لا شكّ أنّ الأوقات الّتي كان يقضيها «محمّد تقي» مع أساتذته في حوزة فومن العلميّة، وهم خرّيجو الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، كان يتخلّلها الكلام عن ذلك الجوّ العلميّ المقدّس، ومحاضر الدّروس الرّائعة الّتي تتّصف بها الحوزات العلميّة في العراق، خاصّة تلك الّتي ترفل بأَردية الشّرف والقداسة بجوار باب مدينةِ العِلْم أمير المؤمنين (عليه السّلام) وسيّد الشّهداء (عليه السّلام)، ممّا كان يسبّب زيادة حرارة الوجد والشّوق في قلب هذا التّلميذ العصاميّ الّذي كان شوقه للإمام الحسين (عليه السّلام) قد اختلط بلحمه ودمه منذ طفولته. وكان أُستاذه الشّيخ أحمد السّعيدي يشير على والده الميرزا محمود الكربلائي بأن يبعث ولده «محمّد تقي» إلى النّجف ليكمل دراسته وينهل من علوم أهل البيت (عليهم السّلام)، وكان يصرّ على ذلك لما كان يرى من نوره وقدسه، ولم يكن قد بلغ الحلم في ذلك الوقت، وقد اقتنع الميرزا بكلامه لما يرى من نبوغ عقل ولده وصفو سريرته، وكان يحاول استباق الزّمن وطيّ المسافات لكي يرد تلك الدّيار النيّرة، ويحضر تلك الدّروس البهيجة حتّى إذا ما حانت الفرصة أسرع «محمّد تقي» ليضع قدمه على طريق الهجرة الّتي حان وقتها وكان ذلك في جمادى الآخرة سَنَة ١٣٤٨ هـ . ق، حيث أودعه والده الرّؤوف الّذي لمس شوق ولده المتأجّج لتلك الدّيار، بكفالة أحد أصدقائه من ذوي المكنة الّذي كان عازماً على زيارة الأئمّة الطّاهرين (عليهم السّلام) كي يوصله إلى كربلاء المقدّسة، وهكذا كان، حيث سارت القافلة يحدوها أمل اللّقاء مع مقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، وباب الحوائج أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام)، ولكنّها خلّفت وراءها منزلاً حزيناً وأباً عطوفاً يقف على باب الدّار يرمق غلامه البارّ بنظرات الوداع، وفي العين دمعة، وفي القلب غصّة، وعلى اللّسان يجري الدّعاء بحفظ الفتى الطّاهر "محمّد تقي".

فقلب المحبّ قلق على حبيبه، فعلى الرغم من أنّ الوالد يعلم أنّ أخاه «الميرزا عَليّاً الأكبر» سيكون خير كفيل لمهجة قلبه ـ حيث إنّ «محمّد تقي» سيكون بضيافة عمّه ـ وإنّه سيرعاه بأشفار عيونه، ويحنو عليه ويهتمّ به، إلاّ أنّ هذا الأمر لم يهدّئ من روعه، ولم يسكّن من سريرته، فكلّ شيء في الدّار يذكّره بحبيبه، فأرجاء المنزل كان يلفّها الحزن، وكلّ زاوية فيه تحاكي مشهداً من مشاهد الحبيب، هنا كان يصلّي وهنا كان يتلو آيات من الذّكر الحكيم ...

وحلّ العاشق بموطن العشق الأبديّ كربلاء المقدّسة

فقد ابتهجت نفسه بشمِّ ترابها المقدّس، وتنفّست روحه عبير ذلك الضّريح الملكوتيّ، فوقع يلثم أعتاب سيّد الشّهداء الإمام الحسين (عليه السّلام). ولم يكن المهاجر يومها قد بلغ الحلم حيث كان في ربيعه الرّابع عشر[ قال سماحته (قدّس سرّه) في إحدى المناسبات: مر على إقامتي في كربلاء أكثر من سنة ثم بلغت سن التكليف]، لكنّه كان يحمل كنوزاً من العلم والمعرفة. ففي الزّيارة الأولى لمقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، جمع الله تعالى بين العالم الأُصوليّ الكبير «الميرزا النّائيني(قدّس سرّه)» وبين اليافع الموالي «محمّد تقي» في أوّل صلاة جماعةٍ، وفي أول زيارة لهذا اليافع لمقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام). فكانت هذه من المنح الحسينيّة الّتي أُفيضت على قلب الغلام الموالي «محمّد تقي»، أن جمعه الله مع العالم التّقي النّائيني، وأراه من حالاته المعنويّة[كان سماحته (قدّس سرّه) يقول: إنه قد رأى صلاة استثنائية ذات حالات معنوية خاصة غير قابلة للوصف لدى عدد محدود من الأشخاص لا يتجاوزون عدد الأصابع، حيث كان أحدهم الشّيخ أحمد السعيدي في مدينة فومن، و الآخر آية الله العظمى الميرزا النائيني (قدّس سرّهما(] ما جعل قلبه بعطاء ربّه رضيّاً. وهذا الأمر إنّما حصل بتدبير إلهيّ، ولم يكن هذا اللّقاء عابراً، وإنّما هي من الأمور الّتي يعدّها الله تعالى لأوليائه، تمهيداً لصناعتهم لخدمة هذا الدّين الحنيف، فكان هذا اللّقاء الجامع بين اليافع الربانيّ والعالم الربانيّ هديّة حسينيّة ممهّدة لكي يصبح «محمّد تقي» من تلامذة العلاّمة النّائيني عندما ذهب فيما بعد إلى النّجف الأشرف.

أقام «محمّد تقي» بادئ أمره في بيت عمّه الّذي كان يومها يسكن كربلاء المقدّسة وبقي فيه لمدّة سنة، حيث لم يستنكف يوماً عن خدمته أو يتململ من وجوده، وكان يؤمّن له كلّ حاجاته، ولا يجعله يحتاج أن يطلب منه شيئاً، فهذا الضّيف الربانيّ هو هديّة الله تعالى إليه، فكان يتعامل معه كنعمةٍ منّ الله تعالى عليه بها، فيتفانى في خدمته، ويتولّى بنفسه الإهتمام بأموره وشؤونه، ثمّ انتقل إلى حجرة في المدرسة البادكوبيّة العلميّة.

ولله درّه أيّ دقّة لا متناهية في تطبيق حدود الله تعالى كانت عند الفتى «محمّد تقي»، والّتي جعلته مراعياً لحدود شريعة ربّه إلى هذا الحدّ، لقد قرّر الفتى الّذي بلغ سنّ التّكليف وبلغ من عمره خمس عشرة سنة أن يترك بيت عمّه، فالميرزا علي الأكبر كان يرعاه بأشفار العين، ويؤمّن له المأكل والفراش لينام قرير العين، ويرافقه قبل بزوغ الفجر لزيارة الإمام الحسين (عليه السّلام). فعمّه كان تقيّاً، كما كان قلبه بابن أخيه مسروراً رضيّاً، فما الّذي جعل قرّة عينه يبتعد عن عينه؟ ولكن قلبه ازداد لهذا الغلام حبّاً، عندما أدرك أنّ في رحيله من بيته، لله تعالى فيه سببٌ، حيث إنّ الفتى الزّكيّ «محمّد تقي» رفض أن يبقى في منزل عمّه الحبيب، لأنّه بلغ سنّ التّكليف، ولم يسمح لنفسه في المبيت في دار عمّه على الأقل لوجود زوجة عمّه في الدّار. فكان الفتى «محمّد تقي» منذ صغر سنّه من أهل المراقبة، أي أنّه كان لا يدخل في مواطن الشّبهة فضلاً عن ابتعاده عن المعصية. ولم يكن ليسهو يوماً عن الحضور والزّيارة لمقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام) وأخيه أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام)، كما كانت بعض مباحثاته يحضرها بجوار ضريح سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، فكان هذا دأب الفتى «محمّد تقي» منذ أوّل نشوئه في المواظبة على زيارة المعصومين (عليهم السّلام) بشكل يوميّ ومنظّم ليبقى ناهلاً من فيض نميرهم الإلهيّ الّذي لايمكن نيله إلا من خلال إخلاص المحبّة والمودّة لهم، وهذا ديدن أولياء الله، وقد كان مكبّاً على العبادة ومقبلاً عليها بكل وجوده قبل التّكليف وكان يهتمّ بالصّلوات المستحبّة فضلاً عن الصّلاة الواجبة، وينقل أحد المطّلعين على أحواله في تلك الفترة أنّه في إحدى المرّات الّتي ذهب فيها لزيارة مسجد السّهلة، كان قد صلّى ركعتين مندوبتين فقرأ في الرّكعة الأولى سورة البقرة وفي الثّانية سورة آل عمران عن ظهر قلب، وهذا يدلّ أنّه كان مهتمّاً بحفظ القرآن وكذلك يدلّ على اهتمامه الشّديد ورغبته الحثيثة بالعبادة لا سيما الصّلاة منذ نعومة أظفاره.

كانت الحوزة العلمية في كربلاء آنذاك تزهو بوجود أساتذة كبار ممّا جعل «محمّد تقي» يشمّر عن ساعد الهمّة ويطوي مراحل مهمّة في دراسة الفقه والأُصول خلال سنوات إقامته الأربع فيها، وفي السّنة الثّانية من إقامته ولدى مجيء والده الرؤوف إلى كربلاء المقدّسة جرت مراسم تتويجه العمامة على يد «آية الله الشّيخ جعفر الحائري الفومني (قدّس سرّه)» الّذي كان قد درس على يديه اللّمعتين[اللمعة الدمشقية، كتاب فقهي للشهيد الأوّل (قدّس سرّه)، و شرحه الشهيد الثاني (قدّس سرّه) باسم "الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية"]، كما قد درس على يد كبار علماء كربلاء في وقتها كـ"آية الله الشّيخ أبو القاسم الخوئي الحائريّ(قدّس سرّه)". وقد واكبت نشاطه الحوزويّ في هذه المُدّة، جهوداً جادّة في مسار تهذيب النّفس وتحصيل معالي الأخلاق من خلال تضرّعه وتوسّله بسيّد الشّهداء (عليه السّلام)، الّذي كان يقضي أوقاتاً معنويّة سامية بجوار حرمه، منحته مرتبة أعظم من المراتب العلميّة الّتي نالها.

وأمّا من الناحيّة العلميّة فكان «محمّد تقي» جادّاً في التّحصيل مكبّاً على الدّراسة بكل ما أُوتي من معنويّات ولم يكن ليكتفي بالكتب الدّراسيّة وإنّما يقرأ معها كتب المراجع العلميّة، والتّي لم تكن محلّ اهتمام في المنهج الدّراسيّ لصعوبتها وكثرة تشعّبها. وفي أحد الأيّام أتى أحد العلماء وجلس مقابل حجرته، فخرج "محمّد تقي"، فسأله العالم: هل يوجد عندك الكتاب ؟[وهو الكتاب النحوي المشهور لمؤلفه سيبويه] فأجابه «محمّد تقي»: نعم! وكان العالم يظنّ أنّ هذا الطّالب لم يكن بمستوى علميّ يمكنه من فهم هذا الكتاب، فقال له: هل تبيعني إيّاه؟ فأجابه "محمّد تقي" بإحراج: نعم! فقال له العالم عندما رآه مُحرجاً: إنّ هذا الكتاب لا يفيدك! عندها بدأ "محمّد تقي" ببيان مطالب هذا الكتاب الصّعب فصلاً فصلاً أمام ذاك العالم المشهور، فَدُهش العالم وبدت آثار الاستغراب والتعجّب على وجهه، وعندما رأى العالم إحاطة هذا الطّالب بمطالب هذا الكتاب بشكل دقيق ومتقن طرح المطلب الّذي كان يريد مراجعته من الكتاب فأبانه الطّالب له وبدأ العالم يستشكل والطّالب "محمّد تقي" يجيب حتّى اجتمع عدد من الطّلبة حول تلك المباحثة بين الطّالب والعالم، وذاع صيت هذه المباحثة النّادرة من نوعها بين الأوساط. وكان العالم بعد ذلك ينصح أولاده وطلبته أن يرافقوه ويتعلّموا منه كيف يدرسون.

وينقل أيضاً أحد الفضلاء من أهل العلم وهو من أحفاد أحد كبار العلماء في كربلاء المقدسة أنّه أقبل "محمّد تقي" إلى أستاذه ليسأله عن مسألة علميّة، فأجابه الأُستاذ وذهب كي يجدّد وضوءه، وعندما انتهى أقبل إليه "محمّد تقي" وقد كتب في ورقة مضيفاً على جواب أُستاذه ثمّ أراها للأستاذ سائلاً: هل ما كتبته صحيحٌ؟ هل هذا ما كنتم تقصدونه؟ فنظر إليه هذا الأُستاذ معجباً، وبادره قائلاً: "مرحباً بتلميذٍ أفضل من الأُستاذ!".

يتبع...

المصدر : albahjat.org