بلال ضاهر **
يكرر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الزعم بأن القدس عاصمة لـ"الشعب اليهودي" منذ ثلاثة آلاف عام. وتكرر هذا الزعم لدى رد وزارة الخارجية الإسرائيلية، التي يتولاها نتنياهو نفسه حاليا، في ردها على إعلان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أنه في حال اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإن تركيا ستقطع علاقاتها مع إسرائيل. وردّت الخارجية الإسرائيلية على إردوغان بأن "القدس هي عاصمة الشعب اليهودي منذ 3000 عام وعاصمة إسرائيل منذ 70 عاما، سواء اعترف إردوغان بذلك أم لا".
لكن الحقائق التاريخية تنفي هذا الزعم الإسرائيلي. أولا، لا يوجد اتفاق بين يهود العالم على أنهم يشكلون شعبا واحدا. كما أن اليهود لم يعرفوا أنفسهم "منذ 3000 عام" على أنهم شعب، خاصة وأنه على مرّ التاريخ تهوّد ملوك، مثل ملك اليمن وملك الخزر، واعتنقت شعوبهم الديانة اليهودية، من دون أن يعرفوا فلسطين، أو حتى أين تقع "أرض إسرائيل" أو أرض كنعان، إذ لم تكن لهم علاقة بهذه البلاد من قريب أو من بعيد، وحتى أنهم لم يعرفوا ما هي الديانة اليهودية. ويؤكد باحثون ومؤرخون، بينهم يهود إسرائيليون، على أن يهود أوروبا الشرقية هم من نسل الخزر.
الأمر الثاني، والأهم في السياق الحالي، هو أن القدس لم تكن "عاصمة الشعب اليهودي منذ 3000 عام"، وذلك بموجب الحقائق التاريخية أيضا. وقد أعلنت إسرائيل لدى قيامها، في أعقاب النكبة عام 1948، عن أن القدس الغربية هي عاصمتها. ورغم أن البعض قد يعتقد أن هذا أمر شرعي، لكن حتى بموجب القرارات الدولية، التي أدت إلى قيام إسرائيل، مثل قرار التقسيم، وضع القدس خارج "الدولة اليهودية" وتحت الوصاية الدولية، لكن إسرائيل احتلتها، مثلما احتلت نصف المناطق التي كان ينبغي أن تقع ضمن الدولة العربية بحسب قرار التقسيم. وفي أعقاب حرب حزيران/يونيو 1967 فرضت إسرائيل قوانينها على القدس الشرقية، التي كانت قد احتلتها للتو، واعتبرت أنها ضمّتها إلى إسرائيل، لكن لا أحد في العالم يعترف بهذا "الضم".
تاريخيا، القدس لم تكن أبدا، ولا في أي فترة، "عاصمة للشعب اليهودي"، ويؤكد ذلك مؤرخون وكتّاب يهود إسرائيليون، بينهم الكاتب والمفكر والصحافي الإسرائيلي بوعاز عيفرون، في كتابه الهام "الحساب القومي". يقول عيفرون إن "المفهوم الصهيوني القائل إن اليهود هم شعب له أرض يتطلع إلى العودة إليها، لا يتلاءم مع الحقائق. وقد أقيمت دولة إسرائيل نتيجة لـ’مصيبة اليهود’ وغايتها حل ’المشكلة اليهودية’، وهي مشكلة نشأت فقط بالتزامن مع التحرر (Emancipation عندما تم منح المساواة في الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية في أوروبا)، لدى انهيار المجتمع الديني. وقد فقد اليهودي هويته الإيجابية عندما تخلى عن الجالية اليهودية وقيمها، ورفضت البيئة المسيحية استيعابه كفرد متساو، أبقاه دون مميزات شخصية. وفي أعقاب ذلك، حصل اليهودي على تعريفه الذاتي من البيئة غير اليهودية، وبدأ يبدو وجوده بنظره كـ"مشكلة". والصهيونية هي تعريف للوضع اليهودي بمصطلحات مأخوذة من عالم مصطلحات القومية المعاصرة".
حقيقة أخرى وواضحة كالشمس، هي أن القدس لم تكن في التاريخ القديم عاصمة أبدا، وربما تواجدت فيها طائفة يهودية. لكن وفقا للأبحاث والدراسات، فإن اليهودية أصبحت ديانة توحيدية فقط بعد "سبي بابل"، في القرن السادس قبل الميلاد، وأنه قبل ذلك كان "اليهود" (إن صح تسميتهم كذلك في تلك الفترة) يعبدون عددا من الآلهة، بينهم "يهوى" الذي كان يجمع عددا من الآلهة وبالأساس إله الحرب، ولم يصبح "يهوى" مرادفا للرب إلا بعد العودة من السبي، حيث تعرفوا على التوحيد من حضارة بابل.
بعد ذلك، بقيت القدس تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، ثم الإمبراطورية البيزنطية، حتى الفتح العربي، في العام 536، وبقيت تحت الحكم العربي والإسلامي حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية، في بداية القرن العشرين. أي أن القدس بقيت تحت سيادة عربية وإسلامية قرابة 1300 عام، تخللها احتلال القدس على أيدي الصليبيين.
كذلك تدحض أبحاث علم الآثار المزاعم الإسرائيلية الحالية، التي تشوه التاريخ عمدا وتحاول إعادة كتابته وفق أهوائها. ويؤكد على ذلك عالما الآثار، البروفيسور يسرائيل فينكلشطاين من جامعة تل أبيب، والبروفيسور الأميركي نيل آشر سيلبرمان، في كتابهما "بداية إسرائيل"، ويدحضان فيه أساطير التوراة حول القدس.
يقول هذان الباحثان إن "القدس في عهد داود، وبشكل أكبر في عهد ابنه سليمان، استخدمت لمئات السنين موضوعا لأساطير وقصص شعبية" تحدثت عن عظمة عمرانية "لمدينة داود وهيكل سليمان... والعمل (عمل علماء الآثار) في مدينة داود وأنحاء أخرى من القدس التوراتية لم ينتج عنها العثور على أدلة حقيقية لوجود مدينة في القرن العاشر (قبل الميلاد). وليس فقط أنه لم يتم العثور على أي أثر لبناء هائل، وإنما تم العثور على قطع فخارية بكميات قليلة نسبيا".
ويدعي باحثون آخرون، في محاولة لإثبات علاقة بين القدس واليهود، بأن أعمال البناء والتطوير المكثفة التي جرت في القدس أدت إلى ضياع آثار قديمة تثبت علاقة كهذه. لكن فينكلشطاين وسيلبرمان، يردان بالتأكيد على أن "الحفريات في مدينة داود كشفت آثارا مذهلة من العصر البرونزي والعصر الحديدي ومن قرون متأخرة من العصر الحديدي (أي قبل 3000 عام و 4000 عام). ولم يُكشف شيئا من القرن العاشر قبل الميلاد. والتقديرات، في أفضل الأحوال، هي أن القدس في القرن العاشر (قبل الميلاد) كانت متواضعة جدا في حجمها، ومن الجائز أنها لم تكن أكثر من قرية جبلية عادية".
هذه الأبحاث والدراسات وغيرها تفند أساطير "إسرائيل" حول علاقة اليهود القدماء بالقدس وفلسطين عموما، رغم أنه ما من شك أن اليهود عاشوا في فلسطين قديما، لكن ليس كشعب و"ممالك" منفصلة عن شعب البلاد ونظامها السياسي. لذلك، لا أساس للزعم الإسرائيلي بأن "القدس عاصمة للشعب اليهودي منذ 3000 عام"، خاصة وأن نصف يهود العالم ليسوا إسرائيليين، والقدس ليست عاصمتهم. وأصبحت هناك ضرورة بمواجهة إسرائيل بالحقائق التاريخية ووقف حملة أكاذيبها في العالم.
**متخصص بالشؤون الإسرائيلية
المصدر:عرب 48