إن ملحمة ثماني سنوات من الدفاع المقدس بمثابة حديث خالدٍ عن صمود وبطولة وتضحيات شعب ارتقى قمم البسالة والشهادة السامقة دفاعاً عن كيانه ودينه وثورته ووطنه الإسلامي، وخيَّب آمال العدو في بلوغ أهدافه الدنيئة.
لم تكن هذه الحرب ميداناً لمشاركة جماهيرية واسعة، وإنما هي خلافاً للحروب المتعارف عليها عالمياً شهدت تواجداً مرموقاً لكبار الشخصيات السياسية والعلمية في البلاد على امتداد الخطوط الأولى في الجبهة، وكان من بين كبار المسؤولين سماحة آية الله العظمى الخامنئي (دام ظله) الذي امضى الكثير من وقته النفيس في جبهات الحق ضد الباطل ملؤها حب الجهاد والشهادة، ولما يَزل تواجده حياً في أذهان الكثيرين من المقاتلين وقادة الدفاع المقدس، فالمعنويات التي كان يرفد بها جند الإسلام بمثابة الحافز نحو الانتصارات الكثيرة التي تحققت لا سيما خلال السنين الأولى من الحرب المفروضة.
قلّما جرت عمليات دون تواجده إلى جانب قادة الحرب، وقلما شوهد مكانه خالياً في سوح الوغى في أية فترة من الحرب، فمشاركته في حرب العصابات وغير المنظمة إلى جانب القائد الدكتور مصطفى جمران؛ وتواجده في العمليات الكلاسيكية الكبرى؛ والمشاركة الفاعلة في التخطيط للعمليات وقيادتها؛ والسعي الجاد في معالجة المشاركات الحربية ودعم الجبهات، والتصدي لسياسات بني صدر الخيانية في إدارة دفة الحرب؛ وزياراته للجبهات في قاطع الغرب وتواصله المباشر مع المقاتلين في الخطوط الأولى؛ وبيان الأبعاد السياسية للحرب المفروضة، وإيصال رسالة هذه الملحمة المقدسة عبر الخطابات في المحافل الدولية والحديث لوسائل الإعلام العالمية؛ وتعزيز المشاركة الجماهيرية الفاعلة في الحرب عبر خطبه في صلاة الجمعة وأحاديثه ... الخ، كلها نماذج للدور الذي قام به قائد الثورة الإسلامية في ملحمة الدفاع المقدس.
اندلاع الحرب
إن الأطماع الامبريالية للاستكبار العالمي والأهداف التوسعية للنظام المستبد الحاكم في العراق هي التي دفعت بالقوات العراقية الغازية بقيادة صدام حسين لان تشن هجومها الشامل براً وبحراً وجواً بشكل رسمي يوم 31 شهريور من عام 1359 [1980م] على الوطن الإسلامي، هذا الهجوم الذي كان يستهدف الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية المقدس وبسط هيمنة العراق على الخليج الفارسي، ولقد كان ضعف المعنويات لدى العسكريين، وانعدام التنظيم في الجيش وقوات الحرس الثوري، والعجز عن استخدام الإمكانيات المتوفرة وفقدان بني صدر لقابلية التدبير ... الخ من الملامح البارزة في جبهتنا في تلك الأيام، كما يراه الإمام القائد الخامنئي:
"لقد كان وضع الجبهة وقتذاك وخيمٌ جداً؛ فلم نك نمتلك قوى إنسانية ولا تجهيزات فيما كان العدو قد توغل 60 ــ 70 كم داخل أراضينا ولم تفصل العدو عن الأهواز سوى 17 أو 18 كم. من هنا فقد كانت معنويات العسكريين والشعب ككل مهزوزة، ولا أقول مهزومة لكنها على أية حال مهزوزة وأليمة.
الحضور الأول
لم تمض سوى أيام معدودات على اندلاع الحرب وإذا بالاوضاع المضطربة في الجبهات تدفع قائد الثورة الإسلامية للتواجد الميداني المباشر ليعزز الثقة والاطمئنان النفسي لدى المقاتلين؛ ويضاعف فيهم الاندفاع والحماس ويحيى بهم حب الجهاد والشهادة.
يقول "دام ظله" حول السبب في أول حضور له: "بما أنني شعرتُ في بداية الحرب بقلة قواتنا وضعفها فقد استأذنت الإمام وتوجهت إلى الجبهة لعلنا نعزز معنويات المتواجدين من القوات ودعوة آخرين من أبناء الشعب لمؤازرتهم؛ وبعد مضي ما يناهز الأسبوع على اندلاع الحرب توجهت إلى الأهواز لأن العدو كان على مقربة منها؛ فأمضيت عام 1359 [1980م] بمكة وشهراً أو شهرين من عام 1360 [1981م] في الجبهة وكنت في منطقة الأهواز ودزفول أتنقل حول ساحة الحرب وكذلك في منطقة الغرب مدة وجيزة.
حرب العصابات
بعد الحصول على إذن الإمام "ره" توجه سماحة السيد القائد والشهيد جمران برفقة 50 ــ 60 مقاتلاً إلى الأهواز واستقروا في غرفة العمليات مباشرة. يقول "دام ظله" عن اللحظات الأولى لحضوره في الجبهة الجنوبية للحرب:
"عندما وصلنا إلى مطار الأهواز كان الظلام يلف المدينة بأرجائها حتى المطار، وتحت جنح الظلام الدامس توجهنا صوب معسكر الفرقة 92 قاصدين مقر قيادة الفرقة، وفي تلك الأيام كانت الأهواز ترزح تحت قذائف العدو إذ أنهم كانوا يقصفونها بالهاونات من عيار 120 ملم، فكان مطار الأهواز وكافة أنحائها ومن بينها مقر الفرقة الذي قصدناه تحت رحمة نيران العدو، وكان الظلام يسود المكان الذي توجهنا له أيضاً فلم استطع أن أرى شيئاً، وتحت جنح الظلام وبرفقة أناسٍ مجهولين وبعد اجتياز نقاط التفتيش انتقلت في خاتمة المطاف من المطار إلى مقر الفرقة ومنه إلى الفرقة الخاصة بالعمليات".
ثم ارتدى قائد الثورة ولأول مرة حُلّة التعبوي المجاهد عندما ارتدى بزّة القتال ليخمد مطامع العدو التي يصبو لها من صراعه العنيد مع الثورة الإسلامية في مهدها.
يقول "دام ظله " بهذا الصدد:
"جاؤوا لنا بالبزة العسكرية التعبوية فكانت المرة الأولى التي ارتدي فيها الملابس العسكرية وربما لم يرتد عالمُ دين اللباس العسكري حتى ذلك الحين أبداً، وإلى أشهر عديدة حين كان العلماء يترددون على خرمشهر ويشتركون في الحرب كانوا يرتدون زي العلماء والعمامة".
لقد أثّرت الضغوط النفسية الناجمة عن تقدم العدو والخسائر التي لحقت بالقوى الشعبية المقاتلة على المعنويات بشدة وساد الاحباط جموع المدافعين عن الوطن الإسلامي، وفي هذا المقطع الزمني انطلقت بارقة أمل وخطوة شجاعة نابعة من الشعور بالمسؤولية فحوّلت هذا الجمع الخامد إلى شعلة من نور وتلك كانت عمليات ليلية غير منظمة بمشاركة سماحة قائد الثورة، يوضح "دام ظله" تأثير هذه العمليات على معنويات المقاتلين كما يلي:
"لقد خلق تحركنا الليالي الجديد هذا تغييراً في هذه المنطقة، لا سيما وأنني قد حضرت بزي العلماء حيث لم تكن ثمة بادرة على رغبتي أو اندفاعي لمثل هذه المهام.
لكنهم شاهدوني وقد ارتديت الملابس العسكرية واحتذيت الجزمة العسكرية وتنكبت البندقة وانطلقت معهم، فكان إن خلّف هذا العمل حركة وحماساً لدى المجموعة، وقد كررنا فعلنا هذا عدة ليال".
جبهة الغرب
كانت معظم زيارات قائد الثورة الإسلامية لجبهة الغرب عام 1359 [1980م] لغرض زيارة الخطوط الأولى للجبهة ومواساة المقاتلين ومعالجة مشاكل القوات المتجحفلة هناك واللقاء باهالي تلك المنطقة، فيما كان تواجده في الجنوب للمشاركة في جلسات القرار بشأن الحرب والعمليات الكبرى.
المواجهة بين رؤيتين لإدارة الحرب
لغرض الوصول لتحليل صائب عن العمليات الكبرى في قاطع الجنوب من الضروري التطرق إلى رؤية بني صدر ــ كقائد عام للقوات المسلحة ورئيس لمجلس الدفاع الأعلى ــ في طريقة إدارة دفة الحرب وتعامله المغرض والخياني مع الخطط الحربية التي قدمها حرس الثورة الإسلامية، وذلك لأن قراراته كانت ملموسة على صعيد المسيرة العامة للحرب والانتصارات والهزائم التي شهدتها الجبهة من ناحية، وليتضح جيداً الدور الحاسم والحيوي لقائد الثورة الإسلامية في مواجهة هذه الرؤى والقرارات من ناحية أخرى.
فمنذ اندلاع الحرب وحتى إقالة بني صدر كانت هنالك مواجهة محتدمة بين هاتين الرؤيتين لإدارة الحرب، وكانت عمليات ثامن الأئمة (ع) ــ كأول عمليات كلاسيكية ضخمة أدت إلى فك الحصار عن مدينة آبادان ــ ذروة المواجهة بين الرؤيتين، فاستراتيجية "الانسحاب والدفاع" التي يتبناها بني صدر وطيفه في بداية الحرب قد ضيَّعت مدن انديمشك والأهواز وخرمشهر وآبادان حيث أعلنوا صراحة أن البقاء في هذه المدن ضرب من الانتحار، من هنا فقد اقترحوا إخلاء هذه المدن على أن تستقر القوات المدافعة على مرتفعات زاغروس وخرم آباد.
أما قائد الثورة الإسلامية ورفاقه فقد كانوا يتبنون استراتيجية "البقاء والتضحية" وباتخاذهم لهذا المنهج كانوا يعتقدون بالمقاومة والبقاء في هذه المدن. من هنا فقد كان "دام ظله" يتابع بدأب تواجد المقاتلين في آبادان وخرمشهر ويتقبل كل خطة من شأنها المساعدة في صمود هاتين المدينتين بوجه العدو، ومن خلال مقاومة قوات الحرس والتعبئة والقيام بعمليات حرب العصابات ومن ثم عمليات ثامن الأئمة وفك الحصار عن آبادان ثبت عملياً تفوق هذه الرؤية وعلو كعبها.
مجلس الدفاع الأعلى
يعتبر مجلس الدفاع الأعلى أعلى مرجع لاتخاذ القرار فيما يخص شؤون القوات المسلحة بعد القيادة العامة للقوات المسلحة، وقد مرَّ بادوار متعددة وضمَّ أعضاء وعناصر عديدين، وكان لقائد الثورة الإسلامية حضوراً فاعلاً في هذا المجلس خلال مختلف مراحله منذ بداية تشكيله، ففي المرحلة الأولى وقبل المصادقة على الدستور عمل آية الله العظمى الخامنئي "دام ظله" مندوباً لمجلس قيادة الثورة ومساعداً لوزير الدفاع إلى جانب مساهمته في إدارة شؤون البلاد من قبل المجلس المذكور، علماً ان الشهيد جمران كان هو وزير الدفاع حينها.
من الاعمال الجديرة بالاهتمام التي أقدم عليها سماحته في مجلس الدفاع الأعلى بتركيبته غير المتجانسة والاضطراب الإداري الذي حصل في بداية انتصار الثورة؛ كان إلغاء دور المستشارين العسكريين الأمريكيين في إيران عبر المصادقة عليه في مجلس الدفاع الأعلى حيث كانوا ما يزالون كعناصر مخابراتية قليلة في صفوف الجيش. وفي المرحلة الثانية اصدر الإمام الخميني "ره" بتأريخ 20 ارديبهشت عام 1359 [1980م] مرسوماً عيَّن بموجبه سماحة آية الله العظمى الخامنئي والشهيد جمران مندوبين عنه في مجلس الدفاع الأعلى.
الحديث عن الدفاع المقدس في الأمم المتحدة
في يوم 31 شهريور من عام 1366 هــ.ش [1987م] ألقى سماحة السيد القائد رئيس الجمهورية حينذاك خطاباً قيماً في الاجتماع الثاني والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تزامن مع الذكرى السنوية للعدوان العراقي على الوطن الإسلامي ولا شك في أنه كان دفاعاً عن شعب تعرض لعدوان من قبل العراق والقوى الشيطانية في العالم؛ فيما كانت المنظمات الدولية تشجع المعتدي على مواصلة جرائمه وذلك عبر التزامها الصمت أو دعمه. وفي كلمته الصريحة شرح "دام ظله" طبيعة الهجوم العراقي على الوطن الإسلامي، وتعاطي مجلس الأمن بهذا الشأن واستخدام العراق للأسلحة الكيمياوية وهجومه على البواخر التجارية وناقلات النفط والمناطق السكنية وكذلك إثارته التوتر في منطقة الخليج الفارسي. واستطرد سماحته موضحاً موقف مجلس الأمن خلال سني الحرب قائلاً: "هل من دليل يمتلكه مجلس الأمن في نكوصه عن أول واجباته أي التصدي للمعتدي المرجحة في المادة الأولى من المنشور الأممي على غيرها من الأهداف؟ ما هو حجم الضغط الذي مارسه على العراق لغرض التصدي للمخاطرة بالسلام وانتهاكه والتوسل بالقوة؟ إننا نشعر بأن مجلس الأمن قد تعرض لتأثيرات إرادة ورغبات بعض القوى الكبرى لا سيما أمريكا في اتخاذه لهذا الموقف المهين المدان. ولا يسعنا هنا إلاّ أن نقول إن هيكل الأمن الذي أُسس بدعم من هذا المجلس ما هو إلاّ بناء كارتوني برّاق".
من المسلَّم به أن هذه السطور القليلة لا تستوعب الكتابة والحديث عن تواجد قائد الثورة الإسلامية على مدى فترة الدفاع المقدس، وان ذلك يتطلب فرصة أكثر وأكبر لإيضاح أبعاد الجهود التي بذلها هذا المجاهد الفذ.
وكمسك ختام للمقال، فلن يفي بالغرض لأداء حق الموضوع سوى كلام عطر له "دام ظله" إذ يقول: "عندما انظر إلى فترة السنوات الثمانية هذه وأستذكر تلك الآلام والتجارب والساعات العصبية تتداعى لدي تلك الحالة التي أنظر فيها إلى فترة الجهاد قبل انتصار الثورة، فبالرغم من حبورنا بهذه الثمرة الطيبة التي تمخض عنها جهاد الشعب الإيراني ومجاهدوه ــ والحمد لله ــ بيد أن فترة الجهاد كانت ممتزجة بالمحنة في سبيل الله، وذلك مما يتعذر نسيانه أو استبداله بشيء آخر. فحقاً كانت لفترة الجهاد وتلك المصاعب والشدائد وحالات القلق والاضطراب لذتها الخاص بها التي يصعب تصورها خلال فترة الراحة والعافية، وتلك اللذة المعنوية إنما هي نابعة من حب وعشق الانسان لغايته التي يحبها ويعشقها وسعيه الواله نحوها. وإننا نمتلك ذات الإحساس إزاء فترة السنوات الثمانية من الحرب، وعلينا أن نحتفظ في أذهاننا بالذكر العطر لتلك الأيام ونحافظ عليها، وإذا استطعنا تسطيرها على الورق لتظل باقية للمستقبل.