الشيخ حسين الخشن
عندما نتحدث عن النهوض، فلا شك أنّ الشباب هم قطب الرحى في هذه المهمّة، ولكن من اللّازم قبل كلّ شيء أن يكون لدى الشباب إرادة التغيير، وواقعنا – نقولها بكلّ أسف وحسرة – لا نشي بذلك، فما نرصده في هذا الواقع هو أنّ الجيل الشابّ يعاني من مشكلة الإستلاب الفكريّ وضياع الهُويّة وضعف الثقه بالذات، وهذا الضياع يدفع الشباب إلى حالة من التغرّب الفكريّ والحضاريّ. ومن هنا كان لا بدّ أن نُوليَ هذه القضية أهميّة خاصة، لأنّها تعبّر عن أزمة بنيوية عميقة تهدّد كيان الأمّة بالسقوط الحضاريّ الذريع. وهذا ما سوف نُوضحه فيما يلي:
1- الأمّة وسؤال الهُويّة
في البدء ثمّة من يتساءل: عندما تتحدثون عن نهوض الأمة فهل نحن لا نزال أمّة أساساً؟ أم نحن أشلاء أمّة؟ هل نحن أمّة واحدة أم أنّنا أمم غير متّحدة؟
سوف أتجاوز هذا السؤال المغرق في اليأس والإحباط لأقرَّ بأنّنا لا نزال أمّة تجمعها الكثير من الأهداف المشتركة على مستوى الدّين واللّغة والأرض والثقافة.. لكن أيّ أمة نحن؟
بنظرة سريعة إلى حال أمتنا، ماذا نجد؟ وماذا نرى؟ هل يختلف اثنان أنّنا في حالة يرثى لها، بحيث إنّه وأينما امتدّت بنا الباصرة أو حلّقت المخيلة، فسوف نرى أمّة حائرة تائهة متشتّتة قد أضاعت بوصلتها الأساسية، أمّة - كما أرى وترون - متناحرة ممزّقة، تفتك بها الصراعات المذهبية والعرقيّة والحزبيّة، أمّة مسلوبة الإرادة يعمل الآخرون على مصادرة عقولها وطاقاتها وثرواتها، وإذكاء نار الفتنة في كلّ ساحاتها وبين كل تلاوينها المذهبية والعرقية والقومية!
وفي ظلّ هذا الواقع، فإنّ الأسئلة تتزاحم علينا، والسؤال الأبرز: لماذا نحن على هذه الحالة من التخلّف الحضاري والتردّي الفكريّ، والإنحطاط الأخلاقيّ والتشظّي الاجتماعيّ؟ أكُتِبَ علينا الذلّ والهوان؟ على طريقة ذلك الشاعر:
مشيناها خطىً كُتبت علينا * ومن كُتبت عليه خطىً مشاها
وهذه الأسئلة لم تعدْ تطرح بين النخبة أو في الصالونات المغلقة، بل إنّها غدت تُطرح عبر الشاشات وفي وسائل الإعلام من قبل الكثيرين من الشباب المسلم ممّن لا يمكننا تخوينهم ورميهم بالعمالة والتغرّب كما هي العادة الدارجة؟ فالكثير من المخلصين أخذوا يتساءلون همساً أو علناً: من نحن؟ ولماذا
هذه حالنا يا ترى؟ ألم يَأْنِ لنا أن نصحوَ من هذا السُّبات العميق؟ وكيف نصحو وهناك من القيود والأغلال ما يمنع الصحوة ويعرقل الحركة والنهوض، سواء كانت قيوداً داخلية أو خارجية؟ وما السبيل إلى ذلك؟
وكلّ هذه الأسئلة مشروعة وعلينا أن نفكّر بتقديم إجابات مقنعة عليها، ومن الضروريّ أن نتصدّى للإجابة عليها بروحيّة الواثق بنفسه وبانتمائه الحضاريّ والدينيّ، لا بروحية المهزوم الضعيف.
ودعوني مرّة ثانية أكرر القول: إنّني - وبالرغم من هذه الصورة السوداوية التي نراها من حولنا - لست متشائماً ولا يائساً من إمكانية التغيير والإصلاح، فأنا لا أغفل وجود علامات مضيئة وتجارب مشرقة معاصرة في هذه الأمة، ويبقى تعويلنا كبيراً على الجيل الشابّ في أن ينهض ويستلم زمام المبادرة ويضع الأمة على الطريق المستقيم، بما يشكّل الخطوة الأولى في طريق الانطلاق إلى مستقبل مشرق وغدٍ أفضل. ولكنّني أتحدّث عن المسار العام للأمة، أتحدّثُ عن المليار ونصف المليار مسلم الذين لا وزن و"لا ريح" لهم، وفقاً للمصطلح القرآني[1].
وقد يكون من المفيد عقد مقارنة بين حاضر الأمّة وماضيها، فقد نجد أكثر من قاسم مشترك بين مرحلتنا الزمانية وبين تلك المرحلة، وبين واقعنا وذاك الواقع، وهذا ما سوف ينفعنا في معرفة الأسباب وتقديم الحلول والعلاجات، لأنّ أمراض الأمم والشعوب - وبخلاف أمراض الفرد الجسديّة أو النفسيّة التي تختلف من شخص لآخر، وقد تستجدّ أمراض لم تكن معهودة في الزمن السابق - هي في الأعمّ الأغلب متقاربة ومتشابهة، وذات مناشئ معروفة ومتجانسة.
2- فقد الثقة بالذات: أعراض ومخاطر
ومن أبرز وأخطر هذه الأمراض التي تفتك بالأمم مرض فقدان الثقة بالذات، بحيث تعيش الأمة حالة من الاهتزاز وعدم التوازن وحالة من الضياع الفكري والتذبذب النفسي. ومعلوم أنّ الثّقة بالنفس والذات هي الحصن المنيع لسلامة الفرد وحماية الأمة، فهي بمثابة جهاز المناعة لدى الأشخاص، فكما أنّ جسد المرء إذا فَقَدَ مناعته فإنّه يصبح عرضةً لهجوم "الفيروسات" الانتهازية الكامنة وغزو الجراثيم المسمّة، كذلك هو حال الأمة إذا فقدت ثقتها بنفسها فإنّها ستفقد مناعتها وحصنها الحصين وتصبح عرضة للغزو الثقافيّ أو غزو العقول والإرادات. ومرض فقدان الثقة بالذات له الكثير من التداعيات والأخطار السلبية على كيان الأمة، وإليك أهمّ هذه المخاطر؟
1- الازداوجية بين المشاعر والمواقف، وانفصام الشخصية بين ما يُعلم وما يُعمل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: ٢ – ٣]. ولو رجعنا إلى جعبة الماضي وحقبة التاريخ، فسوف نجد نماذجَ كثيرة تعبّر عن هذه الازدواجية، فهكذا كان حال أهل الكوفة وغيرها من البلدان الإسلامية إبّان نهضة الإمام الحسين (ع)، وقد قالها الفرزدق عندما التقاه الحسين(ع) في الطريق وسأله عن حال الناس خلفه فأجابه: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"[2]، إنّ مقولة "قلوبهم معك وسيوفهم عليك" تعكس حال الأمة اليوم أيضاً، أليست قلوب مئات الملايين من العرب والمسلمين مع الفلسطينين، لكن سيوفهم (سيوف المال، والنفط، وغيرهما) هي لخدمة الصهاينة المحتلين!
2- الشلل التَامّ وضعف الإرادة، وهذه الحالة واضحة للعيان، فمنْ يتأمل في واقع الأمة الإسلامية التي بلغ تعدادها المليار والنصف المليار نسمة، سيجدها أمة متفكّكة خائرة القوى لا ريح لها، وإلاّ فكيف لهذه الأمة بكلِّ إمكاناتها وقدراتها وعديدها أن تعجز عن تحرير أرضها السليبة في فلسطين وفكّ أسرها من الصهاينة المحتلين الذين لا يتجاوز عددهم بضعة ملايين! وإنّك عندما تشاهد بعض المسيرات المليونية في بعض العواصم العربية وهي تهتف باسم القدس وفلسطين يتمالكك إحساس بالعزّة والفخار، ولكن سرعان ما تتبدّد الآمال عندما تتبخّر الجماهير ويتفرّق الجمع ويولّون الدّبر، ما يذكّرني
بما جرى مع مسلم بن عقيل سفير الحسين (ع) إلى الكوفة، حيث اجتمع عليه وبايعه الألوف من أهالي الكوفة، ثم بين ليلة وضحاها تبدّدت عنه تلك الجموع وانفضّت الجماهير التي بايعته، ليجد مسلم نفسه وحيداَ فريداً على باب تلك المرأة الصالحة "طوعة"[3].
3- الخوف من المواجهة الفكرية وعدم الاستعداد للاستماع إلى الآخرين، وهذا من النتائج الطبيعية للمرض المشار إليه، فإنّ مَنْ يفقد الثقة بالذات يتهرّب من الحوار والمحاججة، وإذا أجاب فإنّ جوابه يكون على طريقة: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة: ٨٨]. بينما الشخص الذي يمتلك الثقة بنفسه لا يهرب من
الحوار ولا النقاش ولا يخيفه ذلك، أمّا الإنسان الضعيف في حجّته، فالهروب من المواجهة هو أسلم الطرق بالنسبة إليه، والتشويش والتعمية هي أفضل خياراته، كما حدثنا القرآن الكريم عن بعض المشركين: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦]، ويصل الأمر إلى حدّ أن يسدّ الإنسان أذنيه عن الاستماع إلى دعوة الحقّ، كما حصل مع ذاك الصحابيّ الأسعد بن زرارة، الذي دخل مكّة في بداية الدعوة الإسلامية، وكان مُحرِماً وخوّفه بعض عتاة المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام حتى لا يسحره محمّد (ص) بكلماته، فسأل ابن زرارة: ما الحلّ إذن وأنا محرم وأريد الطواف؟ قال له ذلك القرشي: الحلّ أن تضع في أذنيك القطن، وتذهب للطواف فلا تسمع شيئاً من كلامه، وهكذا كان![4]. إنّ سياسة وضع القطن في الأذنين لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.
4- إنهيار منظومة القيم لدى الإنسان، لأنّ فقد الثقة بالذات سيجعل الإنسان عرضة للتفلّت الأخلاقيّ وحقلاً خصباً للغزو الفكريّ والثقافيّ، ومن البديهيّ أنّ المنظومة الأخلاقية هي الحصن الأخير التي تحمي إنسانية الإنسان فبانهيارها تنهار إنسانيته، ويستسهل بعدها ارتكاب كلّ الفظائع أو الجرائم، ومن هنا وجدنا أنّ الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء حاول في نهاية المطاف أن يستصرخ الضمير الإنسانيّ في تلك الزمرة التي حاصرته ومنعت عنه الماء، وتعرّضت لأطفاله وعياله، فقال (ع): "إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم"[5]، فهذا الكلام يكشف بوضوح عن انهيار منظومة القيم والأخلاق عند تلك الجماعة.
5- هدر الطاقات والعقول: إنّ النتيجة الطبيعية لفقدان الأمة ثقتها بذاتها هو هدر الطاقات والعقول والكفاءات والمقدرات، وتغدو هذه الطاقات والعقول عرضة للنهب أو الهجرة إلى دول أخرى. أليس هذا حالنا؟ ألا تتحدث الأرقام عن أنّ عشرات الآلاف من أصحاب العقول المبدعة والكفاءات المميّزة من
أبناء أمتنا لم يجدوا ملجأً آمناً أو سبيلاً للعيش الكريم في بلدانهم، ما اضطرهم إلى اللجوء إلى الغرب الذي فتح أبوابه لهم وقدّم لهم كل المحفزات والإغراءات.
هذه حال أمتنا اليوم، أمة يمكن لكل إنسان عاقل أن يرصد وبكل سهولة فيها الكثير من الأعراض أو الأمراض المشار إليها.
والسؤال بعد هذا: ما هو السبيل إلى النهوض؟
[1] [الأنفال: ٤٦].
[2] انظر: دلائل الإمامة للطبري ص 182، وفي تاريخ الطبري ج4 ص290 جاءت كلمة الفرزدق كالتالي: "قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة"..
[3] انظر بشأن ذلك: تاريخ الطبري ج 4 ص 277، والإرشاد للمفيد ج 2 ص 54.
[4] انظر: حول هذا الموضوع ما سجلناه في كتاب: عاشوراء – قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء ص86.
[5] الكامل لابن الأثير ج4 ص77.