إيمان الحبيشي
ها نحن نفد على الألفية الثالثة، ونحن أبناء هذا الجيل المختلفون جدًا عمن سبقنا، المسؤولون حتمًا عمن سيكون بعدنا.
يواجه المربون اليوم مشقةً كبيرةً في تربية أبناء هذا الجيل، ليس لأن جيل اليوم صار جيلًا صعبًا متمردًا شرسًا، كما يقول كل جيل عن الجيل الذي يليه، لكن لأن الحياة تطورّت كثيرًا والتغيير سنة كونية لا بُدَّ منها، وما كان مقبولًا بالأمس صار مرفوضًا وبشكل قاطع، وما كان مرفوضًا بالأمس صار مقبولًا وبشكلٍ مائعٍ، حتى مصطلحات اليوم اختلفت عن كلمات الأمس، وأسلوب حديث اليوم يختلف عن أسلوب حديث الأمس.
لم تعد العملية التربوية عملية (أسرية) بامتياز، إذ أن أيدٍ كثيرة تمتد بعمق العملية التربوية، إلى جانب أيدي الوالدين، ويبقى الوالدان حتمًا اللبنة الأساس في العملية التربوية.
منذ سن الثالثة ينفتح الطفل على عالم أكبر من عالم أسرته، ويتعرَّف على معلِّم غير والده ووالدته، ويراقب تفاعلات أطفال غير أخوته، في رياض الأطفال وفي منزل الأجداد، بين الأعمام والخالات.
ومنذ سن الثالثة أو ربما قبل الثالثة، يمتلك الطفل جهازًا ذكيًا يُلاعب من خلاله الأرقام والألوان والأحرف، ويعيش وهو في حضن والدته بعمق عالم افتراضي كبير، يسحب له من الأفلام والتسجيلات ما نعجز عن إحصائه بضغطة زر واحد.
وبسرعة يقتحم هذا الطفل سني تكليفه (ذكرًا كان أو أنثى)، وحينها نتمنى لو كان أطفالنا طوع أيدينا، فلا يقتربون من التدخين، ولا يغادرون مصلاة السجود وقت الصلاة، ولا يتمردون على عادات المجتمع، ولا يتحدّون أو يُهملون واجبات الدين، إلا أن تلك التمنيات تذهب أدراج الرياح، ما لم نختر أسلوب التعامل المناسب في تعليم واقناع أبنائنا بنهل الصحيح من عاداتنا، والإمتثال الواعي لأحكام ديننا.
بالأمس كانت جداتنا تلبسن ما يغطي شعرهن وأجسادهن في الشارع، وما إن تدخل لمنزلها حتى تخلعه لتلعب مع أبناء العم والخال أحيانًا مع أخوة الزوج! في امتثال غير متكلف لعادات اجتماعية لا تعرف مغزاها، إلا أنها تربَّت لتمتثل لها، ومع المد الإسلامي الذي تسببت به ثورة الإمام الخميني رحمه الله، صار اللباس الشرعي واجبًا إسلاميًا له ضوابطه التي احتاجت فترة من الزمان، حتى صارت شائعة ومعروفة، واجتاح الحجاب عالم النساء بشكله المعروف سابقًا، إلا أن التطور غزا أسواق الحجاب، فصارت الأحجبة والعباءات ملونة بعد أن كانت سوداء، وتقاطعت الموضة مع الحجاب الإسلامي كواجب شرعي لا بُدَّ أن تلتزمه المرأة.
لستُ بصدد الخوض في جدلية (وجوب) الحجاب على المرأة، فهو موضوع أزعم أنه أخذ وقته وأُثبتت حقيقته، ويستطيع من يشاء العودة للدراسات والمقالات التي تتناول الحجاب من هذا الجانب.
كثيرون يُثيرون موضوع الموضة والحجاب، ويستشكلون على طرق التزام النساء بلباسهن الإسلامي، وكثيرون وبعد كمّ التطور والغزو الثقافي الخارجي، صاروا يؤمنون أن الحجاب واجبٌ شرعيٌ، للمرأة حريتها الشخصية في الالتزام به أو قذفه بعيدًا عنها، ورغم أني ضد الحكم على المرأة من زاوية لباسها فقط، إلا أني أعتقد أن هناك جانبٌ مُغفلٌ تمامًا، تسببَّ في أن يكون الحجاب موضة الملتزمات به، وحرية شخصية لغير الملتزمات به، وهو الجانب الأخلاقي والاجتماعي الذي يحققه المجتمع الملتزم بالحجاب بشقيه (العفة/الستر)، كما أن لعبادات وواجبات شرعية أخرى جوانب اجتماعية وأخلاقية، يكون أثرها واضحًا جدًا في المجتمعات التي تحتكم وتلتزم بها كـ(الزكاة) مثلًا.
لا يُعد الحجاب أو الزكاة من وجهة نظري -القاصرة- عبادة فردية أو واجبًا شرعيًا فرديًا، بل أراه واجبًا (جمعيًا) يلتزم به الفرد ليشمل بآثاره عموم المجتمع، ولكي نتأكد من التزام فتياتنا باللباس الشرعي، ومقتدرونا بحصة الزكاة في أموالهم لا بُدَّ أن نمتلك ويمتلك أبناؤنا المعرفة بكل جوانب وأبعاد الالتزام بهذين الواجبين وبواجبات وعبادات أخرى، رغم قناعتي التامة بأن الالتزام بالعبادات لا بُدَّ أن يحوي بند التسليم التام لله.
الحجاب واجبٌ فرديٌ جمعيٌ، يُلغي الهوية الجنسية للمرأة محتفظًا بهويتها الإنسانية في موج الاختلاط المتلاطم اليوم، وعلى المرأة أن تعي مسؤوليتها الأخلاقية تجاه مجتمعها من خلال (ما تلبس).
وكذلك الزكاة عبادة فردية جمعية، تحفظ إنسانية المسلم الغني، وتمنع تكدس الثروة في عائلات أو فئات اجتماعية معينة، وتقلِّص الهوة بين الأثرياء والفقراء، وتحفظ المجتمع من أمراض اجتماعية قادرة على إبادته، وعلى المسلم الغني أن يعي مسؤوليته الأخلاقية تجاه مجتمعه من خلال (الالتزام بالعطاء الذي حدده الله) على أقل تقدير.
إن معرفة الأجيال بهذه الأبعاد تعني أن نعزِّز في نفوسهم الإحساس بمسؤوليتهم تجاه مجتمعهم، ونقمع بدواخلهم الرغبات الأنانية، وننتصر بعلمنا وعلمهم للقيم التي من شأنها أن تدفع الانسان نحو الكمال، أما كيف من الممكن أن نعزِّز الشعور بالمسؤولية تلك، فبالطبع عن طريق التمازج بين الحزم في التربية وبين الإقناع.
كيف أقنع طفلتي مثلًا بارتداء اللباس الإسلامي المحتشم؟! بذات الطريقة التي من خلالها أدفع بإبنتي لتُسلِّم كتفها لإبرة التطعيم الموجعة، كل ما حان أوان التطعيمات الوقائية من الأمراض، هل يسأل أحدكم طفلته حين يزج بها في غرفة الرعاية الطبية لتقبل بدفع إبرة مؤلمة في كتفها؟! أم يدفعها لذلك مُحتضنًا إياها، متفهمًا ألمها، مخاطبًا عقلها بأن الوقاية يا إبنتي خير من العلاج؟!
كلنا ندفع أبناءنا قسرًا واعتياديًا نحو الرعاية الطبية وحصد الشهادات التعليمية، وبأساليب خاطئة أحيانًا، لأننا ندرك أهميتها ولأننا نحمل بقلوبنا حبًا لهم، فنريد أن يكونوا أصحاء مسلحون بالعلم، فكيف يتقلص حبنا لهم عند تعليمهم لواجبات دين إنساني راق، ما أوجب واجبًا ولا مستحبًا إلا مراعاة لمصلحة الإنسان، كل إنسان على امتداد التاريخ الإنساني؟!
لنكن إذًا على قدر المسؤولية لعلنا نوفق لخلق جيل قوي مثقف متعلم إنساني.