اعتقال العديد من الأُمراء بتُهمة الفساد خُطوةٌ غير مَسبوقة في تاريخ الأُسرة الحاكمة السعوديّة في حقباتها الثلاث، والشيء نفسه يُقال أيضًا عن الوزراء ورجال الأعمال، الذين راكموا المِليارات في حِساباتهم الخاصّة عبر الرّشاوى وغَسل الأموال على مَدى ثمانين عامًا، ولكن المَأخذ الرّئيسي حتى الآن هو “انتقائيّة” هذهِ الاعتقالات، اللّهم إلا إذا كانت مُجرّد “وجبة أولى”، ربّما تَلحقها وجبات أُخرى أوسع نِطاقًا، تَشمل الحُلفاء وليس الخُصوم فقط، وهذا غير مُستبعد.
أن تُطالب وزارة الخارجيّة السعوديّة رعاياها في لبنان المُغادرة فورًا، سواء كانوا مُقيمين أو زائرين، وتَحذو حَذْوها كل من الإمارات والكويت والبحرين فهذا مُؤشّرٌ خطير، يُوحي بأنّ السلطات السعوديّة تُعد “لأمر ما” في لبنان، إمّا حِصار اقتصادي أو تدخّلٍ عَسكريٍّ لاحق، وهذا ما يُمكن استخلاصه من قول السيد ثامر السبهان، وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج (الفارسي)، “أن بلاده ستتّخذ إجراءاتٍ مُتصاعدةٍ ومُتشدّدةٍ ضِد لبنان إلى أن تعود الأُمور إلى نِصابها الطّبيعي”، وأضاف في تغريدةٍ أُخرى “السعوديّة ستُعامل الحُكومة اللبنانيّة على أنّها حُكومة إعلان حرب على المملكة، وسَنُوقف كل شخص يَعتدي على دَولتنا عند حَدّه”.
***
لا نَعرف ماذا يقصد السيد السبهان المُقرّب جدًّا من الأمير بن سلمان، وحامل المَلف اللبناني في الحُكومة السعوديّة، بقَوله “سنتّخذ إجراءات مُتشدّدة ومُتصاعدة، حتى يَعود الوَضع اللبناني إلى وَضعه الطّبيعي” فهل الوَضع الطّبيعي في نَظره وحُكومته هو “تكسير” قوّة “حزب الله”، ونَزع أسنانه ومَخالبه العَسكريّة؟ ثم كيف سيَتم وَقف الحزب الذي يَعتدي على السعوديّة عند حَدّه؟ وهل هذه المُهمّة مُمكنة مع حزب يَملك 25 ألف مُقاتل من الأشداء، و150 ألف صاروخ، ويَنتمي إلى منَظومةٍ سياسيّةٍ وعَسكريّةٍ إقليميّةٍ قويّة؟
الأشقاء في لبنان مَشغولون الآن بعَودة الحريري، وتَوقيتها وطائراته الخاصّة، التي عادت بدونه اليوم الخميس لنَكتشف أنّها كانت في باريس وليس الرياض، وأن السيد الحريري عندما استُدعي إلى الرياض، طار على مَتن رحلةٍ عاديّة وليس على متن طائرة خاصّة، ومن المرّات القليلة التي جَرى النّظر بصورةٍ أبعد من قِبل هؤلاء، أي الأشقاء اللبنانيين، أي إلى ما يُمكن أن يَحدث في لبنان في الأسابيع والأشهر المُقبلة، وحَجم المخاطر التي تَنتظرهم وبَلدهم، وكيفيّة مُواجهتها كدولة، وأحزاب، وجماعات، وطوائف.
الحِصار الذي فَرضته سُلطة الاحتلال الإسرائيلي على قِطاع غزّة أدّى إلى انفجارِ ثلاث حُروب شنّتها إسرائيل في أقل من سَبع سنوات، والاحتلال الإسرائيلي إلى لبنان هو الذي بَذر البُذور الأقوى، ووفّر الحاضنة اللبنانيّة والجنوبيّة لـ”حزب الله” والمُقاومة اللبنانيّة الإسلاميّة التي أدّت إلى دَحر هذا الاحتلال، وإذلاله قبل إنهائه، ولهذا فإنّ السّؤال الذي يَطرح نفسه هو عن التبِعات والنّتائج التي يُمكن أن تترتّب على أيِّ حصارٍ أو عُقوباتٍ اقتصاديّةٍ على لبنان في المُستقبل المَنظور؟ وهل سيتكرّر سيناريو قِطاع غزّة؟
لا نَعرف ما الذي يَحمله الأمير بن سلمان في جُعبته من خُطط سِواء للدّاخل السعودي أو للخارج العَربي والإقليمي، فهذا الشّاب، وعلى ضُوء تجارب الأسابيع والأشهر والسّنوات الثلاث الماضية، لم يتردّد في إجراءِ تغييراتٍ شاملة، وخَوض حُروبٍ، وتشكيل تحالفاتٍ لأنّه يُريد إخراج السعوديّة من “سُباتها العميق” وتَحديثها، وتعبئتها سياسيًّا وعَسكريًّا تحت عُنوان مُواجهة “الخَطر الإيراني” وأذرعته العَسكريّة في اليَمن والعراق ولبنان وسورية.
الأمير بن سلمان، مِثلما تناهى إلى أسماعنا، يَشعر أن هُناك فراغًا قياديًّا سياسيًّا وإسلاميًّا في المِنطقة، وأنّه وبلاده هُما المُرشّحان لمِلئه، ويُريد إقامة الدولة السعوديّة الرّابعة، وِفق مَعايير أيديولوجيّة القوميّة العربيّة كبديلٍ للوهابيّة الدينيّة والسياسيّة، التي لَعِبت دورًا كبيرًا في تأسيس الدّول السعوديّة الثلاث.
بمَعنى آخر، يبدو أن هناك تحوّلاً كبيرًا في عقيدة الأمير بن سلمان الجديدة، وأركان حُكمه ومُستشاريه، من الوهابيّة الطائفيّة إلى القوميّة العرقيّة العربيّة، القائمة على الحَداثة والعَصرنة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة على الطريقة الغربيّة، والانفتاحيّة العلمانيّة، ألم يُهدّد بكَسر رؤوس كِبار عُلماء هذهِ الحَركة لمَصلحة الإسلام المُعتدل؟
السؤال هو: هل تَستطيع هذهِ القوميّة الجديدة المُفاجئة على البيئة السعوديّة المُعادية للعلمانيّة، أن تكون العَقيدة القِتاليّة التعبويّة في أيّ حُروبٍ قادمةٍ تَخوضها المملكة تحت راية العاهل السعودي الجديد (الأمير بن سلمان)، الذي سَيتولّى العَرش في غُضون ساعاتٍ أو أيّامٍ مَعدودةٍ على الأكثر؟
إذا كانت العقيدة الوهابيّة ذات الطّابع الطّائفي تُركّز على مُحاربة الشيعة في إيران، وأجزاء من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، فإن العقيدة القوميّة البديلة، إذا ما جرى تبنّيها، ستَضع المملكة العربيّة السعوديّة أمام قوميّتين رئيسيّتين هُما القوميّة التركيّة، والقوميّة الفارسيّة، ومن غَير المُستغرب أن تتوحّد هاتان القَوميتان ضِدها، في ظِل مَرحلة استقطاب غير مَسبوقة في المِنطقة، وفي ظِل الدّعم الأمريكي، وربّما الإسرائيلي للنّهج القَومي السّعودي المُفترض، ممّا قد يُؤدّي إلى دَفع بعض القِوى العربيّة إلى التردّد في الانضمام للحِلف العَربي الجديد، خاصّةً أن الأمير بن سلمان بدأ يُوسّع دائرة تَحالفاته عربيًّا، سِواء على صَعيد النّخب، أو القِوى الفاعلة.
لا نَعرف أين مَوقع مِصر الحَليف الأساسي للمملكة العربيّة السعوديّة في الحِلف الرّباعي ضِد دولة قطر؟ فهَل سَيتوسّع هذا الحِلف الجديد، وبوجود مِصر، بحيث يَشمل فَتح جبهات اقتصاديّة أو عسكريّة، ضِد إيران وسورية ولبنان (حزب الله) والعراق (الحشد الشعبي) ثم أين مكان العَرب الشيعة؟
الرئيس عبد الفتاح السيسي قال أمس أن بلاده لن تتدخّل في لبنان ضد “حزب الله”، وإن كرّر النّغمة التقليديّة في الوَقت نفسه بأنّه لن يَسمح بتدخّلٍ إيرانيٍّ في الشّؤون الداخليّة الخليجيّة، ونحن نُرجّح بأنّ الرئيس السيسي الذي قاوم كل الضّغوط السعوديّة لإرسال قوّات في إطار التّحالف العربي وحَربه في اليمن، ربّما يَفعل الشيء نفسه في مُواجهة الضّغوط المُتوقّعة بالانضمام إلى أيِّ جبهةٍ مُحتملةٍ ضد إيران، وإذا شارك فإنّها سَتكون مُشاركةً رمزيّةً على غِرار حرب “عاصفة الصحراء” عام 1991 لذَر الرّماد في العُيون.
***
الصّحن المِصري طافح بالأزمات والحُروب، فمِصر تخوض حَربًا ضد “الدولة الإسلاميّة” أو “داعش” في سيناء، وأُخرى ضِدها في الصّحراء الغربيّة على الحُدود الليبيّة، وثالثة مُحتملة ضد أثيوبيا على أرضيّة سَد النّهضة، فهَل تُغامر بإرسال قوّات أو طائراتٍ وفَتح جَبهةٍ ضد لبنان وحزب الله؟
نَتمنّى أن يَطّلع الأمير بن سلمان، على كِتاب المُفكّر الأمريكي بول ألن حول صُعود الإمبراطوريّات وانهيارها، الذي يَسوق ثلاثة أسباب للانهيار، أبرزها هو التمدّد بطريقةٍ أكبر من قُدراتها، والقِتال على عِدّة جبهاتٍ في الوَقت نفسه، اللّهم إلا إذا كان يَملك مَعلوماتٍ لا نَمْلُكها نحن، وتَكسر هذه النظريّة.
خِتامًا نقول أن المملكة العربيّة السعوديّة تَملُك عَضلاتٍ اقتصاديّةٍ قويّة تستطيع استخدامها في “عَصْر” لبنان إذا ما أرادت فَرض حِصار مالي واقتصادي عليه، ولكن ربّما يكون حُلفاء السعوديّة من السّنة والمسيحيين هم أكثر المُتضرّرين، لأنّهم عماد الطّبقة الوسطى اللبنانيّة، التي تَضم التجّار وأصحاب رؤوس الأموال، وليس الشيعة حاضنة “حزب الله”، الذين يُشكلون حوالي 40 بالمئة من سُكّان لبنان، لأن مُعظم هؤلاء من الفلاحين والطّبقة العاملة، وأبناء الضّيع والقُرى، وربّما، ونقول ربّما، يُؤدّي الحِصار الاقتصادي إلى توحيد اللبنانيين لا تَقسيمهم.. والله أعلم.
عبد الباري عطوان