الفقيد آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي
فيما يلي نتحدّث عن المهام الأساسية الثلاثة للشهيد وهي:
1 ـ التذكير.
2 ـ القدوة.
3 ـ حفظ كتاب اللّه وشريعته من التحريف.
المهمة الأولى للشهيد في الدنيا: التذكير
هو الرسالة الأولى للشهيد. يقول تعالى: {إنّ هذه تذكرةٌ فمن شاءَ اتّخذ إلى ربِّه سبيلاً}.
ورسالة الأنبياء «أن يعود الناس إلى أنفسهم»، كما كان الإمام الحسين (عليه السلام) يخاطب الناس في كربلاء: «عودوا إلى أنفسكم».
أنفسهم هي فِطَرهم وعقولهم وضمائرهم التي يسلخها عنهم الهوى والطاغوت والشيطان. إن في نفس الإنسان كنوزاً من القيم والمعرفة واليقين والاستجابة للّه، ورصيداً كبيراً من الفطرة الصافية النقية، ومهمّة الشهداء الوصول إلى هذه الكنوز. إن هذه الأمة التي انطلقت من قلب الصحراء في جزيرة العرب، واستطاعت أن تهزم أكبر إمبراطوريتين في التاريخ في مدة يسيرة من عمر التاريخ ، لم تتمكّن من انجاز هذه الفتوح بقوة عسكرية نظامية متفوّقة ولا بالمال، وإن كان لابدّ لهذه الدعوة من تلك وذاك معاً، ولكن الأمة الشاهدة التي انطلقت من قلب الصحراء استطاعت أن تخاطب ضمائر الناس وفِطَرهم التي صدّهم عنها الطاغوت. وفتحت هذه الأمة الشاهدة الطريق إلى فِطَر الناس وضمائرهم التي حاول الطاغوت في هاتين الإمبراطوريتين أن يغمرهما، واستجاب الناس في كل هاتين الإمبراطوريتين إلى دعوة هؤلاء الفاتحين الذين جاءوهم برسالة العودة إلى أنفسهم.
إن لنا نحن الدعاة إلى اللّه رصيداً من الفطرة في أعماق نفوس الناس، ومهمتنا الوصول إلى هذه الأعماق، فإذا استطعنا أن نصل إلى كنوز الفطرة فإن الناس يستجيبون لدعوة اللّه أفواجاً وأفراداً.
ونحن لا ننفي ولا ننكر أن الفطرة والضمير قد يجفّان وينضب معينهما تماماً، وقد يطمرهما الهوى والطاغوت والشيطان تماماً، فتنعدم الفطرة، وينعدم الضمير، كما حدث ذلك في قوم نوح (عليه السلام) {وقال نوحٌ ربّ لا تذرْ على الأرض من الكافرين ديّاراً * إنك إن تذرْهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً}.
ولكن اللّه تعالى قد أودع في فطرة الإنسان وضميره وعقله من القوة ما يمكّنه من المقاومة أمام ضغوط الهوى والشيطان والطاغوت ردحاً طويلاً من الزمن. فإذا تمكّن الدعاة إلى اللّه أن يصلوا إلى نفوس الناس، واهتدوا الطريق إلى فِطَرهم وضمائرهم برفق ولين، فإن اللّه تعالى يفتح عليهم من قلوبهم ما أغلقه الهوى والطاغوت.
بين [الميثاق] و[الشهادة]:
ما هي الرسالة التي يحملها الشهداء والأمة الشاهدة إلى فِطَر الناس ؟ إن هذه الرسالة هي العودة إلى «الميثاق».
إنّ في فطرة كلّ إنسان عقداً وميثاقاً مع اللّه تعالى، والتزاماً بالعبودية والطاعة، ولا يشذّ إنسان عن هذا الميثاق الفطري. وقد شرحنا هذا الميثاق في رسالة مستقلة في تفسير قوله تعالى: {وإذْ أخذَ ربّك من بني آدمَ من ظهورِهم ذرّيتهم وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربّكم قالوا بلى}.
وكلّ إنسان يرتبط في عمق فطرته بهذا العهد والميثاق مع اللّه تعالى عن وعي والتزام وتعهّد. إلاّ أنّ العوامل الضاغطة على الإنسان تتمكّن من إخماد جذوة الفطرة وإضعافها وطمرها أحياناً، فتختفي الفطرة من حياة الإنسان، وينسى الإنسان هذا الميثاق، ويغفل أنه شهد على نفسه بين يدي اللّه بهذا الميثاق {وأشهدهم على أنفسهم}. فيأتي دور الشهيد والأمة الشاهدة في إعادة الناس إلى ميثاق الفطرة، وتنبيههم إلى هذا الميثاق الذي عقدوه مع اللّه تعالى بوعي الفطرة ثمّ نسوه وأهملوه. وإلى هذه العلاقة بين الشهادة والميثاق يشير الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):
«فبعث اللّه فيهم رسله وواتر أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن عقولهم».
وإنما يتمكّن الشهداء من معرفة فِطَر الناس، وما أودع اللّه تعالى في نفوسهم من الوعي الفطري العميق، بسبب الموقع الوسط الذي يحلّون فيه، فإنّ هذا الموقع الوسط يمكّنهم من شهود الفطرة، وما أودع اللّه تعالى فيها من الوعي الفطري وميثاق الطاعة والعبودية للّه تعالى، وشهود الانحراف الذي طرأ على هذه الفطرة بعد وعي وعهد وميثاق.
وهذا الشهود يحمّلهم ـ كما ذكرنا ـ مسؤولية تنبيه الناس وتذكيرهم بهذا الوعي وهذا الميثاق. إن العودة إلى اللّه تعالى حاجة حقيقية في نفس كل إنسان، كما أن الأكل والشرب والنوم حاجات في الإنسان، فلا يحتاج الإنسان إلى إكراه وضغط ليأكل أو يشرب أو ينام بقدر حاجته الطبيعية، ولكن قد يحتاج الإنسان إلى من ينبهه بموعد الأكل والشرب والنوم، كذلك (الدين) والعودة إلى اللّه حاجة فطرية مركوزة في عمق النفس، فلا يحتاج الإنسان لكي يعود إلى الفطرة إلى إكراه أو ضغط {لا إكراه في الدينِ قد تبيّن الرشدُ من الغيّ}[4]. ولكن الإنسان يحتاج إلى من ينبهه ويذكّره باللّه تعالى.
وهذه هي المهمّة الأُولى للشهيد والأمة الشاهدة في التاريخ.
التذكير رسالة الأنبياء في التاريخ:
إن القرآن الكريم صريح في أن رسالة الأنبياء (عليهم السلام) في التاريخ هي التذكير أولاً، ثم بعد ذلك التعليم، وإن مهمة التذكير قبل التعليم، وقد ورد التصريح بهذه الحقيقة في سورتين من أوائل ما نزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من القرآن بعد تكليفه بالرسالة، وهما سورتا «المدثر» و«المزمل».
يقول تعالى: {كلاّ إنه تذكرةٌ * فمن شاء ذكره}.
ويقول تعالى: {إنّ هذه تذكرةٌ فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلاً}.
ويقول تعالى: {إنْ هو إلاّ ذكرى للعالمين}.
{وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}.
ويأمر اللّه نبيه (صلى الله عليه وآله) بالتذكير، ويصرّح له بأنه مذكّر قبل كل شيء، بل يذكّره اللّه تعالى بأن مهمّته الوحيدة هي التذكير، وسائر المهام التي يجب عليه أن ينهض بها إنما هي من شؤون التذكير.
وهذه الحقيقة تتضح في الحصر الوارد {فذكّر إنما أنت مذكّرٌ}، والقرآن الكريم «ذِكرٌ» أكثر من أي شيء آخر، أو إنه ذِكْرٌ فقط، والمسائل الأخرى التي يحفل بها كتاب اللّه من متطلّبات الذكر ومستلزماته.
يقول تعالى: {إنْ هو إلاّ ذكرٌ وقرآنٌ مبينٌ}.
{هذا ذكرٌ وإن للمتقين لحسنَ مآب}.
{إنا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظونَ}.
{وهذا ذكرٌ مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}.
ومهمّة القرآن الكريم ورسالته هي التذكير وتيسير التذكير:
{ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهلْ من مُدّكر}.
{وإنه لتذكرةٌ للمتقين}.
{ولقد صرفنا في هذا القرآنِ ليذّكّروا}.
ويقول اللّه تعالى لنبيه الكريم إنه لم ينزّل عليه القرآن ليشقى بجحود الناس وعنادهم ولجاجهم، وإنما بعثه بالقرآن ليذكّرهم به فقط، وما عليه بعد ذلك من أمرهم استجابوا أم لم يستجيبوا.
{طه * ما أنزلنا عليك القرآنَ لتشقى * إلاّ تذكرةً لمن يخشى}.
الاستجابة والانغلاق عن التذكير:
وللناس تجاه التفكير حالتان: حالة الاستجابة والانفتاح وحالة الانغلاق والصدود.
وفيما يلي نتحدث عن هاتين الحالتين:
أولاً ـ حالة الاستجابة والانفتاح:
إن من الناس من يستجيب للذكرى من دون صدود وإعراض، وينفتح قلبه للأنبياء والشهداء، ويتلقّى الذكرى ويتفاعل معها. وهؤلاء هم أصحاب القلوب الواعية الذين لم يتمكّن الشيطان من قلوبهم، ولم يصدّهم عن ذكر اللّه، ولم تنغلق قلوبهم عن ذكر اللّه، ولم يتمادوا في الإعراض عن اللّه. وتعبير القرآن عن الذين يستجيبون والذين لا يستجيبون للذكرى دقيق وحريّ بالتأمّل والتفكير.
يقول تعالى عن الذين يستجيبون للذكرى: {تبصرةً وذكرى لكلِّ عبد منيب}. والإنابة هي العودة.
وكلّ عودة تتضمّن بعداً وغفلة، ولكن عندما يكون البعد والغفلة والتخلّف عن الاستجابة والطاعة من غير عمد ولا صدود ولا لجاج فإن صاحبه يعود للذكرى سريعاً، ويستجيب.
يقول تعالى: {لنجعلَها لكم تذكرةً وتعيَها اُذنٌ واعيةٌ}.
وتعبير القرآن دقيق {اُذنٌ واعيةٌ}، أما الاذان الصمّاء فلا تعي ولا تدرك، ولا تنفعها التذكرة كيفما تكون الذكرى وأيّاً كان المذكّر.
يقول تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ}.
ذكرى لمن كان له قلب، أما من مسخ قلبه مسخاً، فلا تنفعه الذكرى، وذكرى لمن ألقى السمع، أما من صدّ عن السمع فلا تنفعه الذكرى. وذكرى لمن كان شهيداً حاضراً، أما من كان غائباً بروحه وعقله وحاضراً بجسمه فقط فلن تنفعه الذكرى.
والشهيد هنا من الشهود والحضور، وهو الشهيد المتذكّر في مقابل الشهيد المذكّر يقول تعالى: {وذكّرْ فإن الذكرى تنفعُ المؤمنينَ}. والمؤمنون في مقابل أهل الجحود والكفر المعرضين عن اللّه.
وهؤلاء المؤمنون يستجيبون للذكرى وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه تعالى.
{الذين آمنوا وتطمئن قلوبُهم بذكر اللّه ألا بذكرِ اللّه تطمئن القلوبُ}.
ثانياً ـ حالة الانغلاق والصدود:
وفي مقابل حالة الانفتاح والاستجابة والإنابة نواجه حالة مرَضية هي حالة الانغلاق والجحود والصدود والإعراض عن اللّه تعالى، وهؤلاء لا تنفعهم الذكرى. يقول تعالى عن هذه الطائفة: {وإذا ذُكّروا لا يذكرونَ}.
ويواجهون الذكرى والتذكير بالإعراض والصدود. يقول تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمنِ مُحدَث إلاّ كانوا عنه معرضينَ} و {فما لهم عن التذكرةِ معرضينَ}.
وهؤلاء المعرضون يعاقبهم اللّه تعالى بأشد العقاب، ويجعل معيشتهم في الدنيا ضنكاً، ويحشرهم يوم القيامة عمياناً لا يرون شيئاً، كما تعاموا في الدنيا عن ذكر اللّه تعالى.
يقول تعالى: {ومن أعرض عن ذ كري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشرهُ يومَ القيامةِ أعمى}.
الإعراض عن اللّه عن علم وعن غير علم:
وحالات الإعراض عن اللّه تعالى على طائفتين:
فمن حالات الإعراض والضلال وإتباع الباطل والهوى ما يكون من دون علم ولا هدى. يقول تعالى: {بل اتّبع الذين ظلموا أهواءَهم بغيرِ علم}.
والحالة الأخرى من الإعراض، أسوأ من هذه الحالة وأبعد عن اللّه، وأكثر انغلاقاً وصدوداً عن ذكر اللّه، وهي التي يعرض فيها صاحبها عن اللّه، بعد أن جاءه العلم، بغياً وظلماً، ثم بعد أن استيقنتها نفسه، يقول تعالى: {وما تفرّقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلمُ بغياً بينهم} ، ويقول تعالى: {أفرأيتَ من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون} ، ويقول تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}.
عقوبة الإعراض عن ذكر اللّه:
وعقوبة هؤلاء من سنخ الجريمة، إن الجريمة هي الإعراض عن اللّه والتصامّ والتعامي عن ذكر اللّه وآياته، والعقوبة هي الإضلال والختم والإغفال.
يقول تعالى: {وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} وهي عقوبة تتطابق مع الجريمة بدقة.
يقول تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمرُه فرطاً}.
والإغفال عقوبة من يتغافل عن ذكر اللّه ويتبع هواه، و (الفرط) من الإفراط، وهو الخروج والتجاوز عن حدود اللّه تعالى وحقوقه، كحبّات القلادة التي تنفرط وتتناثر وتخرج عن مواقعها ونظمها، كذلك الإنسان عندما يتبع هواه ينفرط أمره كله: عقله، وضميره، وقلبه، وفطرته، ووعيه، ودينه، ويختل تعادله وتوازنه.
ومن عقوبة الذين يعرضون عن ذكر اللّه ويتعامون عن آيات اللّه أن يحشرهم يوم القيامة عمياناً، كما تعاموا في الدنيا عن آيات اللّه، ويجعل معيشتهم فيها ضنكا، وهما عقوبتان مع سنخ الجريمة.
يقول تعالى: {ومن أعرض عن ذ كري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربّه ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى}.
ومن عقوبة المعرضين عن ذكر اللّه أن يقيّض اللّه تعالى لهم شيطاناً ويجعله قريناً لهم، ذلك أنهم مكّنوا الشيطان من أنفسهم، فتلك أيضاً عقوبة من سنخ الجريمة التي ارتكبوها.
يقول تعالى: {ومن يعشُ عن ذكرِ الرحمنِ نقيّض له شيطاناً فهو له قرينٌ}.
والذي يضلّه اللّه تعالى ويغفل قلبه فلا هادي له {ومن يضلل اللّه فما له من هاد}.
وهذا الضلال الذي يلزم الإنسان إجباراً ولا علاج له عقوبة وجريمة وليس بجريمة فقط، ولكن العقوبة هنا من سنخ الجريمة. ولأن هذه العقوبة إلزامية ولا علاج لها يأمر اللّه تعالى نبيه بالإعراض عنهم.
يقول تعالى: {فأعرضْ عن من تولّى عن ذكرنا ولم يُردْ إلاّ الحياةَ الدنيا}. والإلزام في العقوبة لا ينافي الاختيار. فإن هذه العقوبة نتيجة لما اختاروا من العناد والشقاق، والنفاق بعد أن أتم اللّه تعالى لهم الحجّة وجاءتهم البينات.