لطالما كانت السياسة الخارجية تتبلور وتتشكل انطلاقا من السياسة الدّاخلية. وبطبيعة الحال فإن شبكات من المصالح الموجّهة على مدى سنوات، يمكن أن تتحكم بالسياسة الخارجية الى حد توجيهها. بناءً على هذه الظروف فلم يعد من اللزوم، كما في السّابق، أن تكون السياسة الخارجية امتداد للسياسة الداخلية في سياق تحقيق الأهداف الاقتصادية، السياسية، العسكرية والثقافية الداخلية. ويمكن الاعتماد على هذه المقاييس من أجل إدراك السياسة الخارجية او تبريرها بالحد الأدنى. لكن شبكات المصالح الموجهة خارجيًّا هذه والتي ترتبط بالاستقرار الذهني أو الهدف الداخلي تحدّ من مجال الابتكار في السياسة الخارجية. رؤية مصر حول إيران هي رؤية امتدت طويلا وتمتد ضمن أجواء هذه الشبكات. وفي هذا المجال يمكن الأخذ بعين الاعتبار ثلاثة شبكات أساسية وهي:
الأولى، الشبكة التي نشأت حول العلاقات بين مصر والولايات المتحدة. فقد غيّرت اتفاقيّة كامب ديفيد مصر من عدوّة للمصالح الأمريكية الى صديقة لها. فمصر الآن تعتبر من أكبر المستقبلين للمساعدات الاقتصادية والعسكرية من قبل الولايات المتحدة. كما وتعزّزت العلاقات بين البلدين في المجالات العسكرية، الأمنية، التسليحية، السياسية، التعليمية وكذلك الثقافية كما أن العديد من المؤسسات المهمة في البلدين أصبحت ترتبط ببعضها بشبكة واسعة من العلاقات. لقد استطاعت هذه الشبكة من الاستمرار والصمود في مواجهة التغيير عبر دعم العسكريين لها وكذلك الأجهزة الأمنية المصرية. والنتيجة العملية التي يمكن استخلاصها من وجود وترسيخ هذه الشبكة هي تماشي القاهرة النسبي مع السياسة الإقليمية للولايات المتحدة.
الثانية، الشبكة التي نشأت حول العلاقات بين مصر و"إسرائيل". فمنذ اتفاقية كامب ديفيد، خرجت مصر من حالة العداء مع "إسرائيل" وعلى الرغم من عدم قدرتها على تطبيع العلاقات مع تل أبيب فقد انقادت الى المعادلات الإقليمية الكلية. والعلاقات مع "إسرائيل" تعززت أمنيا وسياسيًّا بشكل ملحوظ على الرغم من أنها لم تستطع أن تنتقل الى المستوى الاجتماعي. وعلى هذا الأساس أصبحت هذه العلاقات بمركزية الأجهزة الأمنية تشكّل شبكة منسجمة تشتمل على تبادل المعلومات، مكافحة المعارضين ومكافحة تيارات التهريب على طرفي الحدود. والنتيجة العملية التي يمكن استخلاصها من هذه الشبكة هي التعاون بين الطرفين من أجل احتواء التيارات الفلسطينية المنتفضة، كذلك إيجاد جهد مصري للعب دور الوساطة بين الفلسطينيين و"إسرائيل" وبشكل عام بين العرب و"إسرائيل".
الثالثة، وهي الشبكة الأكثر حداثة انطلاقا من العام 1990 والتي نشأت بين السعودية والدول العربية للخليج الفارسي. وتستند هذه الشبكة الى مبدأ الدعم السياسي والعسكري من قبل مصر لصالح دول مجلس التعاون في مقابل الدعم المالي الاقتصادي المباشر وغير المباشر من قبل هذه الدول الى الاقتصاد المصري الذي كان ولا يزال يعاني من الأزمات. وقد توسّعت هذه الشبكة التي يتحكم بها السّياسيّون شيئا فشيئا. ورغم أن هذه العلاقات قد ازدهرت على الصعيد الأمني والعسكري، إلّا أنّه وفي مرحلة رئاسة مرسي شهدت هذه الشبكة العربية عدد من التحديات سعت مرحلة رئاسة السيسي الى ترميمها على الرغم من وجود بعض الخلافات. النتيجة العملية لهذه الشبكة يمكن استخلاصها عبر التحكم بالسلوك المصري المستقل في الشرق الأوسط وتحويله الى لاعب تابع للسعودية في هذا المجال.
تؤثّر هذه الشبكات الثلاثة بشكل مباشر وغير مباشر في مواجهة تحسّن العلاقات بين مصر وإيران. فالشبكة الأولى تُقيّد الرؤية المصرية في علاقتها مع طهران في سياق رؤية وسياسة واشنطن لمواجهة طهران. وفي النتيجة، وفي ظل السياسة العدوانية لترامب في مواجهة إيران، فإنّه ليس من المتوقّع مشاهدة تغيّر جدي في نظرة القاهرة باتجاه طهران. أمّا الشبكة الثانية فإنها تحدّ من النزعة الأمنية لمصر بين أجواء دعم إيران لحركات المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي وتعهداتها مع "إسرائيل". وفي هذا المجال لم يحدث أي تغيير جوهري. وفي الشبكة الثالثة، فيمكن وضع التصرف المصري في المكان ضمن الامتداد العدائي للسعودية والإمارات في مواجهة إيران حيث لم يحدث أي تغيير على هذا المستوى أيضا.
الشبكات الثلاثة أعلاه تحتوي على بيروقراطية خاصّة بها حيث تؤثر على هيكلية اتخاذ مصر لقراراتها الى جانب أهدافها، كما أنها تحدد توجه القاهرة في مواجهة طهران. وفي هذه الأجواء، فإنّه من الجدير إلقاء نظرة على خطاب السيسي حول تخفيف التوتر مع إيران. يمكن هنا طرح العديد من الحوافز فيما خص هذا الخطاب، لعل أهمها حافزين قديمين حول رؤية مصر الى إيران: الحافز الأول، إرغام دول الخليج الفارسي على الاستثمار أكثر في مصر؛ أما الحافز الثاني فهو إبراز وجه مسؤول ومعتدل من قبل حاكم القاهرة للمضيفين الأوروبيين والعالميين.
لقد بدأت الجهود لتحسين العلاقات مع مصر منذ فترة الحرب المفروضة على إيران من قبل النظام البعثي الصدامي وأدّت إلى إعادة افتتاح السفارات بين البلدين. لكن مستوى هذه العلاقات توقف عند هذا الحد ولم تتمكن الجهود التي بُذلت بعدها من التوصّل الى أيّة نتيجة. كما أن الشبكات الثلاثة مجتمعة او بصورة فردية تمنع من أيّ تحولّ جديّ في العلاقات بين البلدين. وعلى الرغم من أن السياسة الإقليمية المصرية في فترة السيسي بدت مستقلة الى حد ما في خص السياسة المصرية تجاه اليمن ومصر ويمكن بالتالي اعتبارها مؤشرا على تحرّك مصري مستقل في المنطقة، لكن تاريخ الثلاثة العقود الماضية أثبتت ان الشبكات الثلاثة أعلاه قد حالت دون تحسن وتطور العلاقات بين إيران ومصر وحكمت عليها بالجمود.
24