الشيخ شفيق جرادي
يذهب العديد من المتابعين لدعوات تجديد الخطاب الإسلامي إلى أن المسألة تعود للتطور الذي حصل على صعيد الانفجار الثوري للعلم والحضارة الغربية، مما شكَّل صدمة جديَّة للعالمين العربي والإسلامي، استدعت البحث عن سبل الخروج من مرحلة النكوص، والانزواء في الذات السكونية، إلى مرحلة من التجدد، ولو بترك الذات والالتحاق بنفس سير وخطوات التقدم الحضاري الذي قدَّمه الأنموذج الغربي..
وإذا كان الغرب قد مرَّ بمرحلة من الصراع الحاد مع التقليدية الرسمية للمؤسسة الكنسية، عبرَّت عنه استراتيجيات الإصلاح الديني الذي قامت به "البروتستانتية" معتمدة على: الفصل بين الفرد والمؤسسة الدينية، بل والخطاب الديني الرسمي"اللاهوت الكنسي".. وإعادة إنتاج علاقة بين الفرد والنص التأسيسي "الكتاب المقدس"، بشكل حُرٍ لا تتوسطه أي فروضات تفسيرية قسرية.. مما يتيح الفرصة لتكريس العقل المنفلت من كل عُقال الضوابط ليكون المرجعية الأولى والمطلقة في الفهم وتصدير الأحكام..
فهل على عالمنا العربي والإسلامي القيام بنفس الإصلاح في خلع التقليدية الرسمية للخطاب الديني؟
والمقصود من الخطاب هنا هو مجموع النتائج والصياغات المفاهيمية والتعليمية والعقائدية التي كتبها المتخصصون المسلمون، والتي شكلت اتجاها عاما، وكليا للأطروحة الإسلامية، بسماتها، واتجاهاتها العامة، وسياقاتها، وبنية المعلومات المتعلقة بها، وتقاطعاتها مع أنظومات لخطابات أخرى دينية أو غير دينية.
الأمر الذي يشكل تأسيساً للرؤية الإسلامية الخاصة، ومكوِّناتها الذهنية، وصياغات أهدافها وتطلعاتها وطبيعة حركتها ولغتها وآليات اشتغالها..
بل وقد يطال الكلام حول الخطاب ما هو أبلغ من البعد الفكري والثقافي والسلوكي، ليصل إلى المصدر المنتج لها أعني: القرآن الكريم، والسُّنة الشريفة.. ولو تحت عنوان تلبسهما ثوب المفردة اللغوية البشرية الداعية للتعامل معهما - حسب بعض الطروحات- بنفس الطريقة التي نتعامل فيها مع أي نص أو خطابٍ بشري محدود ومتحيِّز، بفكي الزمان، والمكان، وضرورات الأحوال، والنوازل، والمناسبات الخاصة...
وقد فات هذا الاتجاه أنَّ تحقيق الإصلاح والتجديد الجدي لا يتم إلا ضمن إطار مرجعي خاص، وأن الضرورة التاريخية أو الحضارية إنما تعكس مستوى الحاجة إلى ذاك الإصلاح والتجدد...
ثم إن النموذج الغربي المذكور يؤكد على أن التجدد يحتاج لرفع الوصاية، والتوفر على الاستقلالية والابتكار وبذل كل جهدٍ ذاتيٍّ مبدع.. أما أن يكون التجديد والإصلاح بانتقاء صورة حضارية ما، والتقيد الحرفي بها، فهو انتقال من سكونية جامدة إلى سجن من التبعية السلبية الخانقة والمُعدمة..
وكلامنا هذا لا يعني تنكرنا لما أحدثته الصدمة الحضارية الغربية من شعور نفسي عميق برغبة في التطور إلا أنها رغبة اصطدمت بإمكانية حصولها وتحققها الفعلي مما أفرز لدى اتجاهات الوعي الإسلامي وخطاباته عودة حادة إلى السلفية والتسلف باعتبارها سبيلاً أوحداً لحفظ الدين وتجديد العهد في صيانة الهوية.. أو ذهاب إلى تغليب الواقع الطارئ على كل نص وهوية، بحيث تتحول الحداثة ومساراتها إلى ضابط ، وحاكم على الخطاب الديني في وصفه بالتقليدي، أو التجددي، وبالخرافي الجامد، أو الموضوعي المتجدد..
أو اعتماد لنهج توفيقي محافظ على عناوين المفاهيم والأحكام والموضوعات التي تشكل أساس الخطاب الديني ليقدمها بلغة وآليات معاصرة ظّناً منه انه بذلك يدخل العصر دون المسّ بالمقدس الإسلامي الثابت.. ولقد تولد عن هذه الصدمة الحضارية ونزوع التجدد جملةً من القراءات والدراسات حول تجديد الخطاب الديني، أو أزمة العقل الإسلامي، أو تاريخية العقل الإسلامي، وإصلاح الفكر الإسلامي، ونقد الخطاب الإسلامي... وكلها تشي بمستوى الأزمة التي وصل إليها الخطاب بما هو تعبير عن مأزقٍ مجتمعي ومعرفي وثقافي وسم الواقع الحضاري للمسلمين بالانحطاط وعقلهم بالاستقالة والتكلُّس...
ذلك أن الخطاب أخذ يعي "عمق الأزمة في منطلقاته النظرية التي تحكم مختلف علومه التراثية بسبب عجز هذه العلوم عن إنتاج معرفة معاصرة وفعالة"، ومواجهته لإشكاليات عميقة في تحديد مدى جدوائية الاجتهاد الفقهي والأصولي في حل المشكلات الاقتصادية القائمة على السوق الحرة والمعاملات الربوية والتفريق بين أحكام الاستثمار والاستهلاك.. أو الصياغة المجتمعية في تفاعل المشروع السياسي والمشروع المجتمعي.. أو التأسيس المفاهيمي لإطلاقية القواعد والقوانين الإيمانية والعقيدية، كما والناظم الأخلاقي والسلوكي الديني، والنسبية التي يفرضها واقع الفلسفة، والفلسفات المضافة.. الأمر الذي يؤدي إلى استتباع كل حركة تجديد إلى واحد من نموذجين: إما النموذج التسلفي، أو النموذج الحداثوي.. وقد تم إعادة هذه الإشكاليات إلى مستويات من الأسباب:
المستوى الأول: تداولية الخطاب الإسلامي في منطلقاته وآلياته.. والتي أعادها "نصر حامد أبو زيد" من حيث المنطلقات إلى قاعدتي : الحاكمية والنص... ومن حيث الآليات إلى التوحيد بين الفكر والدين.. ورد الظواهر إلى مبدأ واحد.. واعتماد سلطة التراث والسلف.. والقطعية الذهنية.. وإهدار البعد التاريخي..
المستوى الثاني: إلى اعتماد ما أطلق عليه محمد أركون اسم الظاهرة القرآنية والتي حدثت في تجليها الأول بخطاب شفاهي وقع في زمان ومكان محددين وبشرطيات من الإجابة على أحداث بعينها محفوفة بعناصر لغوية وثقافية واجتماعية أنتجت مثل هذا الخطاب الذي عاد متبعوه لتدوينه بشكل مكتوب تدخلت فيه جملة من المصالح والمبررات لم يتم مراعاتها من قبل الباحثين وبالتالي فيمكننا الاستفادة من هذه الفرضية الأركونية ان هذا القرآن ينبغي قراءته كتراث محكوم بنفس ما يمكن أن يكون عليه أي تراث آخر.. وعلينا تجاوز كل توسطات الهوامش التي تابعته لإعادة تجديد فهمه كركيزة لخطاب تجديدي إسلامي مبني على منهجيات تطبيقية...
المستوى الثالث: وضع مطلب التجديد ضمن دوائر ثلاث:
أولها: العلاقة بالمدونة الأصولية الموروثة من حيث هي الشبكة التأويلية لاستكناه النص وقراءته ومعرفة ما هو الثابت مما ليس بثابت وما هو الصالح لعالم اليوم مما ليس بصالح..
ثانيها: العلاقة بالعلوم التأويلية الراهنة.
ثالثها: مقتضيات العصر الراهن التي وصلت بدينامياتها إلى العولمة وضرورة الالتحاق بها.
المستوى الرابع: التجديد في بعض الآليات المنهجية وهي عند الإمام شمس الدين (رحمة الله عليه) شبه محصورة بمنهجية علم الأصول مما يمكن أن يُحدث تبدلا نوعيا في تصور دور الاجتهاد الديني...
وعند المشهد الثقافي الإيراني الآليات والأضلاع الهندسية للمعرفة الدينية والتي يمكن أن تُحدث تبديلا حتى في طبيعة الهوية المعرفية.. كما وأنها عند بعض التيارات المغاربية الانتقال من التتبع الاجتهادي التفصيلي إلى بُعدٍ اجتهاديٍّ مقاصدي..
المستوى الخامس: استبدال البحث في ماهية الحقائق والأشياء ، للغوص في معرفة شبكة العلاقات القائمة بينها واستنباش المدى الحيوي الذي تنطوي عليه .
المستوى السادس: البحث في نظام الفعالية الجارية في ساحة البحث المجتمعي والتي تتعلق بحسب ما اكتشفه بعض الباحثين بثلاث قضايا رئيسية هي: "المساواة، والمشاركة،والهوية" وأن مثل هذا البحث سيحتم علينا البحث في الإطار المعرفي لنموذج إرشاديٍّ جديد يولِّد خطابا جديداً..
المستوى السابع والأخير: وهو النموذج الذي حفظ مركزية الله كمقدس نهائي ومقوِّم لأبعاد ثلاثية الأضلاع هي: الدين/ الإنسان/ الكون .. معتبرا أن حركية هذه الأضلاع في دائرتي الزمان والمكان تؤهل الخطاب، الدخول في تجددات يقتضيها النص الذي يُفسِّر الزمن في حركة احداثه كليات وتفاصيل تتعلق بمكنون مضامينه .. ويبقى مشدودا نحو المقدس الذي هو في الأشياء وخارجها.
وأعتقد أن الإمام الخميني (قده) كما أن الإمام السيد موسى الصدر - أعاده الله سالماً - يمثلان مثل هذا الاتجاه في فهم عملية تجديد الخطاب بما هو عقلٌ ومعرفةٌ وارتباطات مؤسسية وشبكات اجتماعية وسياسية...
وإذا كان مما لا بدَّ منه إبداء وجهة نظر تجاه الموضوع فأقول : إن إبراز عناصر الجدِّ في التجديد شأن تحوَّل إلى واقع تجاوز مرحلة الحديث عن المسوِّغات والمبررات خاصة بعد دخول عامل تحوُّلي في مسار الحضور الإسلامي ألا وهو قيام كيان دولة إسلامية في إيران والمقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين أخرجت الخطاب الإسلامي من حدود المبادرات الفردية المعزولة في عملية التطوير والتجدد، والاقتصار على ساحة التفاعل مع الجماعة. ليدخل الإسلام إلى حيزٍ من الحضور الحضاري الكوني وليضع نفسه أمام نتيجتين لا ثالث لهما:
اما الفشل، وذلك بإنهاء الإنجاز والتراجع عنه كليا أو جزئيا عبر الالتحاق بالمنظومة الغربية التي تتربع على عرشها اليوم الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما تعنيه من ثقل سياسي واقتصادي وفني وثقافي وحضاري. أو استكمال تحقيق خطوات الإنجاز على كل تلك المستويات...
وهذا التحدي لم ينعكس على الخطاب الإسلامي الإيراني وحده بل تداعت تجلياته عند كل شعوب العالم الإسلامي. ولقد استجلب هذا التحوُّل أسئلة وإشكالات جديدة بسبب الثراء الإضافي الكمي والنوعي الذي أخذ يواجه الخطاب بإطراد متزايد..
وبسبب تشكل مبتنيات معرفية ومجتمعية جديدة أقالت التفسير الخلدوني في مفهومه للعصبية القبلية عن مكانه، كما أقالت الخيارات الافتراضية للاستشراق والتي حكمت بجبرية سقوط التجربة في النسقية الغربية الحاكمة.. لتفتح الباب أمام تأكيد الهوية كخيار يصنع نسقه الحضاري المعاصر ..
ولا اقصد بالهوية هنا المعنى المغلق والمحصور، ذلك أن ما من هوية فاعلة إلا وتحمل ذاتياتها التي تقيم جدلية توليدية بين كل مناحي تقاسيمها لتتكامل عبر إخراج المكنون فيها من مرحلة القابلية إلى مرحلة الفعلية القادرة على التلاقي مع موضوعات خارجها تتشابك معها لتنشئ علائقيات ونسب وارتباطات محددة.
فلا تعود المسألة في الخطاب الديني تقع عند تخوم العلاقة بين النص بما هو ذات، والواقع بما هو موضوع يشكله الآخر.. فالذات صارت نصاً وموضوعاً يبني جدلية تكامله التوليدية ويتقاطع في تشابكات مع الآخر نصاً وواقعاً بجدلية حوارية تارة وصراعية أخرى ..
واختم الكلام من هنا يمكن القول، أن أي انزلاق للتجدد في الخطاب الديني يضع"الإناسة" كمركزية لبناء الدين والإنسان والعالم هو سقوط في نتيجة إعلان انتهاء الإنجاز..
مما يحتم الحفاظ على مركزية التوحيد "الله" كمصيغ لوحدة الجدليات التفريعية في بناءات الدين (النص والتجربة)، والإنسان والتاريخ والعالم.
وهو أمرٌ أثبتت التجربة وفعاليات النتائج إمكانه بشرط التوفر على عناصر الاستقلالية والجدية والإبداع الاجتهادي والثقة بالنفس والحرية في خوض غمار المعالجة..
وإني أغتنم الفرصة هنا للتأكيد على ضرورة وعي الخطاب لذاته ولسر حركته والتي تكمن بمفردات مفاهيمية مفتاحية من مثل الولاية في القراءة العقيدية والسلوكية والتشريعية ، ونظام قيم العزة والقوة في طلب مسار التحرير والنهوض واستنزاف العدو. والاستقلالية في غربلة الملائم وغير الملائم لبناء الذات والكيان..
كما وأؤكد على ضرورة أن يستعيد النص حركيته أمام الجمود الذي أنتجته بعض المقولات الكلامية والفلسفية والتفسيرية والفقهية.. واستعادة مثل هذه الحيوية تقتضي عودة اللحمة بين العقل بما هو تدبر وخبرة وبين العمل بما هو اجتهاد في البناء وجهادٌ في التحرير...