1 - الأربعين في واقعة كربلاء بداية
كان الأربعين - بداية - في واقعة كربلاء. بعد أن حدثت واقعة كربلاء - تلك الفاجعة الكبرى - وتسطّرت التضحيات الفذة لأبي عبد الله (عليه السلام) وأصحابه وأعوانه وعياله في ذلك المكان المحدود، كان على واقعة الأسر والسبي أن تنشر الرسالة، وكان على خطب السيدة زينب الكبرى (سلام الله عليها) والإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) وكشفهما للحقائق أن تعمل كوسيلة إعلامية قوية لنشر الأفكار والأحداث والأهداف والاتجاهات على نطاق واسع.. وهذا ما حصل بالفعل.
من ميزات بيئة القمع أن الناس فيها لا تتوفر لديهم الفرصة والجرأة على التعبير عن الحقائق التي أدركوها في أعمالهم. فأولاً: لا يسمح الجهاز الظالم المستبد للناس بأن يفهموا ويدركوا، وإذا خرج فهم الناس من يده وفهموا الحقائق والأمور فلن يسمح لهم بالعمل بما فهموه. ففي الكوفة، وفي الشام، وفي وسط الطريق أدرك عدد كبير من الناس الكثير من الأشياء عن لسان زينب الكبرى (سلام الله عليها) أو الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) أو عبر مشاهدتهم حال الأسرى، ولكن من كان يجرؤ ويقدر على إبداء ما فهمه مقابل أجهزة الظلم والاستكبار والاستبداد والقمع؟ بقيت القضية أشبه بغصّة في حناجر المؤمنين. وتفجرت هذه الغصّة لأول مرة في يوم الأربعين.. الفوران الأول حصل في كربلاء في يوم الأربعين.
كتب المرحوم السيد بن طاووس - وغيره من الشخصيات اللامعة - أن قافلة الأسرى، أي السيدة زينب (سلام الله عليها) وباقي الأسرى، حينما جاءت كربلاء في الأربعين، لم يكن هناك جابر بن عبد الله الأنصاري، وعطية العوفي فقط بل «رجال من بني هاشم..» عدد من رجال بني هاشم وأصحاب الإمام الحسين كانوا مجتمعين حول تربة سيد الشهداء وجاءوا لاستقبال زينب الكبرى سلام الله عليها. وربما كانت هذه السياسة الولائية لزينب الكبرى بالتوجه إلى كربلاء - عند العودة من الشام - من أجل قيام هذا الاجتماع الصغير - لكن الغزير بالمعنى - في ذلك الموضع. البعض استبعد وصولهم إلى كربلاء في يوم الأربعين، وللمرحوم الشهيد آية الله قاضي مدوّنة مفصّلة يثبت فيها أن هذا الشيء ممكن الوقوع. على كل حال ، ما ورد في كلمات القدماء والأعلام هو أن زينب الكبرى وجماعة أهل البيت حينما نزلوا كربلاء كان فيها عطية العوفي، وجابر بن عبد الله ورجال من بني هاشم. هذا مؤشر ونموذج لتحقق ذلك الهدف الذي كان ينبغي أن يتحقق بالاستشهاد، أي نشر هذا الفكر وبث الجرأة في نفوس الناس. ومن هنا انبثقت أحداث التوابين. ومع أن نهضة التوابين قمعت، ولكن اندلعت بعد مدة قصيرة ثورة المختار وسائر أبطال الكوفة وكانت نتيجة ذلك انهيار عائلة بني أمية الظالمة الخبيثة. طبعاً حلّت من بعدهم السلالة المروانية، لكن المقاومة استمرت والطريق انفتح. هذه هي خصوصية الأربعين. أي ثمة كشف للحقائق في الأربعين، وثمة عمل، ويوجد في الأربعين كذلك تحقيق لأهداف هذا الكشف عن الحقائق.
2 - الدرس الذي نتعلّمه من الأربعين
إن أهمية الأربعين تعود في الأصل إلى أنّ النهضة الحسينية، وبفضل التدبير الإلهي لآل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، تخلّدت في هذا اليوم وإلى الأبد وأصبحت أساساً وقاعدة. فلو لم يهتم ذوو الشهداء وعوائلهم بالحفاظ على ذكريات وآثار الشهادة في الأحداث المختلفة – من قبيل شهادة الحسين بن علي (عليه السلام) في عاشوراء – لما استطاعت الأجيال التالية أن تستفيد كثيراً من معطيات الشهادة.
صحيح أن الله تعالى جعل الشهداء أحياءاً حتى في هذه الدنيا وأن الشهيد خالد بطبيعته في التاريخ وذاكرة البشرية، إلا أن الأدوات الطبيعية التي قيّضها الله تعالى لهذا العمل – ككلّ الأعمال – كامنة في اختيارنا وإرادتنا نحن. إننا نحن الذين نستطيع بفضل عزمنا الأكيد وقرارنا المناسب أن نحيي ذكرى الشهداء وفلسفة الشهادة وأن نُبقيَ عليها حية دائماً.
فلو لم تجدّ زينب الكبرى (سلام الله عليها) والإمام السجاد (صلوات الله عليه) في الجهاد وتبيين وإيضاح حقيقة فلسفة عاشوراء وهدف الحسين بن علي وظلم الأعداء، وذلك على طوال أيام الأسر – سواء في عصر يوم عاشوراء في كربلاء أو في الأيام التالية في الطريق إلى الشام والكوفة وفي الشام نفسها وبعد ذلك عند زيارة كربلاء والعودة إلى المدينة ثم على مدى الأعوام التي عاشها هؤلاء العظماء – لما بقيت حادثة عاشوراء نابضة وحية وملتهبة حتى اليوم.
لماذا قال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) – طبقا لبعض الروايات -: «من قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى غفر الله له ووجبت له الجنة»، لأن جميع الأجهزة الإعلامية قد أعدّت من أجل جعل قضية عاشوراء وقضية آل البيت بصفة عامة منعزلة عن الواقع ومنطوية تحت أستار الظلام حتى لا يفهم الناس ما حدث وما هي القضية. وهكذا هو الإعلام. فما أشبه اليوم بالبارحة حيث تستغل القوى الظالمة والجائرة وسائل الإعلام الكاذبة والمغرضة والشيطانية على أوسع نطاق. فهل كان من الممكن أن تخلّد قضية عاشوراء مع ذلك الوضع – الحادثة التي وقعت بهذا القدر من العظمة في صحراء في ركن من أركان العالم الإسلامي – على ما هي عليه من التدفّق والحيوية وفي جوّ كهذا؟ إنها كانت ستُمحى بالتأكيد لولا هذه الجهود.
إن الذي أحيى هذه الذكرى هو ما بذله آل بيت الحسين بن علي (عليهما السلام) من جهود. فبقدر ما تحمّله جهاد الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) وأصحابه بصفتهم حَمَلَة للواء، كان جهاد زينب (عليها السلام) وجهاد الإمام السجاد (عليه السلام) وباقي هؤلاء العظماء شاقاً كذلك. وبالطبع فإن ساحتهم لم تكن عسكرية، بل كانت إعلامية وثقافية. وهذا ما ينبغي أن نهتم به.
إنّ الدرس الذي نتعلمه من الأربعين هو وجوب الحفاظ على ذكرى الحقيقة وخاطرة الشهادة الحية في مقابل طوفان إعلام العدوّ...
هكذا كان إعلام يزيد وجهازه الظالم الجبار الذي كان يسعى إلى إدانة الحسين بن علي (عليه السلام) وإظهاره بمظهر الحب للدنيا الذي ثار ضدّ جهاز العدل والحكومة الإسلامية!
ولقد كان البعض أيضاً يصدّق هذه الدعايات الكاذبة. وحتى بعد أن استشهد الحسين بن علي (عليه السلام) بذلك الوضع المدهش وتلك الصورة المفجعة على أيدي اللئام في صحراء كربلاء، فإنهم حاولوا التعبير عن ذلك بأنه غلبة لهم وفتح! ولكن الإعلام الصحيح لجهاز الإمامة فنّد كل هذه المزاعم. وهكذا هو الحق.