بقلم آية الله نمر باقر النمر
«ثانياً» معنى الوحدة :
الوحدة (1): هي الانفراد، وكذلك الواحد والوحيد والأحد والتوحد والتوحيد والمتوحد كلها مشتقة من الوحدة وكلها تدل على الإنفراد؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر الغفاري (ره): "الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء."
وقال لقمان (عليه السلام) لابنه: "يا بني الصاحب الصالح خير من الوحدة".
واسم الفاعل للوحدة واحدٌ للمذكر، وواحدةٌ للمؤنث، بمعنى المنفرد. قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أي أن الإله الذي يستحق الإفراد له العبادة إله واحد، وهو وحده دون سواه الجامع لكل صفات الجلال والكمال والجمال، وليس كمثله شيء، فلا نظير له ولا مثيل ولا ضد.
فهو الجامع لكل صفات الجلال والكمال والجمال، المنفرد عن كل الأشياء؛ ولذلك لا يمكن بل يستحيل أن يتعدد أو يتجزأ. وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}.
أي أن الأمة الإسلامية التي جعلها الله كياناً جامعاً للمؤمنين متميزةً ومنفردةً عن كل الأمم هي أمة واحدة، اندكت فيها كل الفروقات بين أفرادها الذين ذابوا في بوتقة منظومتها الرسالية؛ فهي جامعة لكل الأفراد المؤمنين، منفردة عن كل الأمم؛ فلا يمكن أن تتعدد إلى أمم، أو تتجزأ إلى دويلات.
وفلانٌ واحد دهره أي لا نظير له. وهو واحد قبيلته إذا لم يكن فيهم مثله. قال:
يا واحد العرب الذي ما في الأنام له نظير
ويقال حي واحد ووحيد أي منفرد، ويقال رجل واحد ووحيد ومتوحد أي منفرد. وكان رجلاً متوحداً أي منفرداً، لا يخالط الناس، ولا يجالسهم. ورجل وحيد: لا أحد معه يؤنسه.
والوحيد بُني على الوحدة والانفراد عن الأصحاب من طريق بينونته عنهم. وَحَدَ يَحَدُ وَحَداً، وحدة، أي انفرد. تقول رأيته وحده وجلس وحده أي منفرداً، كأنك قلت أوحدته برؤيتي إيحاداً أي لم أرَ غيره، ويحتمل أيضاً أن يكون الرجل في نفسه منفرداً كأنك قلت رأيت رجلا منفرداً انفراداً. وتوحد برأيه: تفرد به.
والتوحيد: الإيمان بالله وحده لا شريك له، وإفراد الله بالعبودية.
والله الواحد الأحد الأوحد المتوحد ذو الوحدانية والتوحد: أي الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر، والهمزة في الأحد بدل الواو، وأصله وَحَدَ لأنه من الوحدة. ولا يوصف شيء بالأحدية غير الله، وفي الحديث: " إن الله تعالى لم يرض بالوحدانية لأحد غيره ". و " شرار أمتي الوحداني المعجب بدينه المرائي بعمله " يريد بالوحداني المفارق لجماعة الحق، المنفرد بنفسه، وهو منسوب إلى الوحدة: أي الانفراد، بزيادة الألف والنون، للمبالغة.
الخلاصة: الوحدة هي: الاجتماع والإنفراد؛ اجتماع الأشياء إلى درجة اندكاكها وذوبانها في بوتقة واحدة، وانفرادها وتمايزها عن الأشياء الأخرى. والاجتماع يكون تحت أمر جامع يعتقد به المتحدون ويؤمنون به، أو يُكَوِّن رابطة بينهم، أو يشتركون فيه؛ مما يدعوهم للإتحاد تحت هذا الأمر، أو يسعون لتحقيقه؛ وينفردون ويمتازون به عن غيرهم، والأمر الجامع قد يكون فكرة أو عُلْقَة أو شعور أو مصلحة.
والوحدة يقابلها الفرقة والشركة، والتوحد يقابله التفرق والتشارك، والتوحيد يقابله التفريق والتشريك، والمتحد يقابله المتفرق والمشترك، والاتحاد يقابله الافتراق والاشتراك.
فلوحدة البشرية أو الأمة أو الوطن أو العشيرة أو الحزب شرطان؛ ولا يمكن بل يستحيل أن تتحقق الوحدة ما لم يتوفرا؛ وهما: الاجتماع على أمر جامع بين الأفراد، وانفرادهم بما يمتازون به عن غيرهم من الأفراد الآخرين.
«ثالثاً» دواعي الوحدة وأهدافها
لا بد من دواعٍ - مشروعة كانت أو لم تكن مشروعة - تدعو جمعًا من الناس للإتحاد تحت عنوان أو مسمى يجمعهم مع بعضهم، ويفردهم ويميزهم عن الآخرين؛ فيعبر هذا الاتحاد عن اجتماعهم على أمر يجمعهم، وعن تميزهم وانفرادهم؛ كداعي العقيدة أو الفكر أو العلقة الرحمية أو النظارة (2) الإنسانية أو اللغة أو اللون أو حدود أرض جغرافية أو وجود عدو لهم جميعاً.
ولا بد من هدف أو أهداف - مشروعة كانت أو لم تكن مشروعة - توحد جمعًا من الناس لبلوغه وتحقيقه؛ كبناء قوة تردع الأعداء، أو بناء قدرة تضاعف الإنتاج، أو تكوين نسيج متجانس يمنع العداوة والشقاق، أو تحقيق مصلحة مشتركة.
أو لا بد من حدوث أمر اتفاقي لواقع ما على شيء يجعل الناس متوحدين حوله؛ كعبودية غير الله بطاعة الطاغوت.
فهذه هي العناصر التي تحقق مفهوم الأمة الواحدة في الخارج بعيدا عن شرعيتها وعدم شرعيتها. ولا شك أن لكلٍ من هذه العناصر من الدواعي والأهداف والأمور الاتفاقية تأثيراً في تحقيق الوحدة النسبية بين الأفراد، كما أن لها قبل ذلك دوراً وتأثيراً في نشوء الإنسان وتربيته وتفكيره؛ لأن الإنسان مركب من عقل وشهوة، وهو مخلوق اجتماعي وفردي؛ فلا يعيش منعزلاً في حياته عن الشؤون المادية وخواصها وآثارها، وهو في نفس الوقت له ذاتياته وخصوصياته التي يتميز بها عن غيره.
(1) لغة.
(2) المماثلة في الإنسانية.
يتبع......