ماذا يحدث حينما يستباح مقام ؟!
لعل الشناعة الأكثر خِسّة ودموية ولؤماً وإجراماً، في تاريخ المسلمين، هي تلك التي حدثت في يوم 22 نيسان 1802م (الموافق لـ 18 ذي الحجة 1216هـ)، والتي اقترفها الوهابيون بحق الإمام الحسين حفيد النبي. وكان يقودهم في هذه الشناعة أميرهم سعود بن عبد العزيز آل سعود (الملقب في التاريخ الرسمي السعودي بـ«الكبير» و«الإمام»).
وكان الوهابيون زمن ذاك، قد أعدوا عدتهم وأعملوا حيلتهم للنيل من الإمام الحسين، ومن أبيه علي، ومن شيعتهما دفعة واحدة. فاختاروا يوم الثامن عشر من ذي الحجة موعداً لحربهم، لِمَا عَلِمُوه من أن هذا التاريخ يوافق عند الشيعة احتفالهم بعيد الغدير (ذكرى وصية النبي بولاية الامام علي من بعده، كما يؤمن «الإمامية»).
ثمّ إنهم علِموا أن العراقيين يحجون جميعاً إلى النجف في ذلك الميعاد. فكانت خطة السعوديين أن يفسدوا يوم الاحتفال بعلي ذاك، عبر مهاجمة مدينة كربلاء، مغتنمين فرصة خلوَّها من رجالها المرتحلين إلى مقام النجف، ثم يقومون بنبش قبر الحسين وسلبه فيغتنون بما يحصّلونه من نفائس المرقد. وإنهم في أثناء غزوتهم هذه يبيدون كل من بقي من «الروافض» في المدينة المقدسة، من أطفال وعجائز ونساء ومرضى مخلفين !
ولقد جهّز السعوديون لغزوتهم جيشاً يتكون من قرابة ألف مقاتل - 600 هجان و400 فارس - (6). وقسّموا جنودهم ثلاثة أقسام، بحيث يهاجمون المدينة الوادعة من أكثر من جهة.
ولم تكن كربلاء في أوائل القرن التاسع عشر، سوى بلدة ذات سور غير عال مبني من الطين، وتحيط بها أشجار النخيل. فلم يكن اقتحامها حينئذ صعباً على المهاجمين. ولقد داهمها الوهابيون من بعد أن تسوّروا سورها، وهدّوا أحد أبوابه.
وهجم التكفيريون على أهل كربلاء كأنهم يفترسون الطرائد، وهم يتنادون: «اقتلوا المشركين!» (7).
يقول مؤرخ الدولة السعودية الأولى والثانية، عثمان بن بشر النجدي الحنبلي، في كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد»: «إنّ سعود قصد أرض كربلاء بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة، ونازل أهل بلد الحسين، فحشد فيها المسلمين (يعني الوهابيين)، وتسوّروا جدرانها، ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت» (8).
ولم يقوَ عمر أغا حاكم كربلاء العثماني على مواجهة الغزاة المتوحشين، فما وسعه سوى الفرار هارباً من المدينة، ومعه بعض جنود من حراسه الأتراك، تاركاً الناسَ العزل لقدرهم الموحش! واتجه ابن سعود ومن معه إلى الروضة الحسينية، فتجمع قرابة خمسون موالياً في صحن مقام السبط، وخمسمئة آخرين خارج الروضة (9). كان معظمهم من المسنين، أو من الأطفال القصّر، ولكنهم صمّموا أن يلبوا نداء مولاهم، وأن ينصروه بصدورهم العارية... وكذلك أعمل السعوديون في أولئك العزل السيوفَ، فبدا كأنّ يومَ الطفِّ قد انبعـث من جديد! ولقد تراكمت على الثرى أشلاءٌ مشوهة، ورؤوس مقطعة، وأجساد مضرّجة تدوسها حوافر الخيل دوساً. وضجّت أركان كربلاء بأنات الجرحى المكروبين، وبعويل الثكالى المكلومين، وسالت دماء المستضعفين تصبغ أركان الروضة الحسينية والصحن والأروقة والضريح.
ثمّ لمّا قضى المقاومون ولم تعد من مقاومة، ربط ابن سعود خيله في الصحن الحسيني، وأمر أتباعه بدق القهوة في أروقة المقام الدامي (10).
وبدأ الوهابيون البدو يخربون كل ما تصل إليه أيديهم في مشهد الإمام الحسين، فاقتلعوا السياج البديع الذي يحف بالضريح، ثم دمّروا المرايا الجسيمة من حوله، ونهبوا النفائس والتحف الثمينة التي طالما قدمها أمراء وملوك الفرس والهند، لتزيين المرقد الآمن. وسلب الأعراب الشمعدانات الضخمة، وآلافاً من قطع السجاد العجمي الفاخر. وهشموا الثريات الثمينة، والأبواب المعشقة. وكسروا حتى القضب المعدنية في الشبابيك، ثمّ تطاولوا إلى زخارف الجدران يحطمونها، واقتلعوا الذهب المزين للسقوف. وأرادوا أن يخلعوا صفائح الذهب الابريز من قبة المشهد الحسيني، ولكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك، لاستحكامها ومتانة وضعها (11)، فارتدوا على القبة يخربونها.
ثم مضوا إلى الضريح نفسه لينقبوه ويكسّروه. واقتلعوا شباك القبر من مكانه، وحملوه في جملة ما سلبوه. وخلعوا باب خزانة المشهد حيث تتجمع التحف الثمينة المهداة إلى الروضة، منذ مئات السنين... فسرقوا كل ما فيها من حجارة كريمة وأوان نفيسة وذخائر جليلة وسيوف مرصعة (12).
ويفخر ابن بشر الوهابي (في كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد» الذي نشرته دارة الملك عبد العزيز - الرسمية- في الرياض، سنة 1982) بما صنعه الوهابيون في غزوتهم تلك، فيقول: «وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها قبر الحسين ، وأخذوا ما في القبة وما حولها. وأخذوا النصبية (يعني الوثن) التي وضعوها على القبر. وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر. وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر. ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر وقتل من أهلها قريب ألفا رجل» (13).
لقد استباح السعوديون كربلاء المقدسة ست ساعات، من نهار 22 نيسان 1802،الموافق 20 ذي الحجة 1216هجري فعاثوا في البلدة تخريباً وتدميراً ونهباً وترويعاً وسفكاً للدماء واعتداء على الأعراض. يصف المؤرخ والمستشرق والسياسي البريطاني ستيفن همسلي لونكريك، فظائع الوهابيين في كربلاء، في كتابه «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث»، فيقول: «قتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه، كما سرقوا كل دار، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل، لم يحترموا النساء ولا الرجال... فلم يسلم الكل من وحشيتهم» (14).
ثمّ إن السعوديين فرّوا بما غنموه، قافلين إلى موطنهم في الصحراء، بعد أن تركوا مدينة مقدسة تئن بفجيعتها ....
بقلم الكاتب الإماراتي
د. سالم حميد
31